[شرح حديث: (والله إنها لفي رمضان ليلة سبع وعشرين لا يستثني)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في ليلة القدر.
حدثنا سليمان بن حرب ومسدد المعنى قالا: حدثنا حماد بن زيد عن عاصم عن زر قال: قلت لـ أبي بن كعب رضي الله عنه: أخبرني عن ليلة القدر يا أبا المنذر! فإن صاحبنا سئل عنها فقال: من يقم الحول يصبها، فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن، والله لقد علم أنها في رمضان -زاد مسدد: ولكن كره أن يتكلوا، أو أحب ألا يتكلوا، ثم اتفقا- والله إنها لفي رمضان ليلة سبع وعشرين لا يستثني، قلت: يا أبا المنذر! أنى علمت ذلك؟ قال: بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لـ زر: ما الآية؟ قال: تصبح الشمس صبيحة تلك الليلة مثل الطست ليس لها شعاع حتى ترتفع].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في ليلة القدر].
بعد ما ذكر ما يتعلق بقيام رمضان ومنه ليلة القدر أخرجها في باب خاص لعظم شأنها، ولما ورد فيها من النصوص، وقد جاءت نصوص تتعلق بها، فأورد جملة من النصوص في هذا الباب.
وليلة القدر جاء عظم شأنها في القرآن الكريم، وأنزل الله فيها سورة تتلى في كتاب الله عز وجل فقال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:١ - ٥]، وهي ليلة مباركة التي قال الله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:٣].
أورد أبو داود حديث أبي بن كعب رضي الله عنه الذي فيه أنها في رمضان، وأنها ليلة (٢٧) من الشهر، وبين رضي الله عنه العلامة التي أرشدهم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أن الشمس في صبيحتها لا شعاع لها.
قوله: [عن زر أنه قال: قلت لـ أبي بن كعب: أخبرني عن ليلة القدر يا أبا المنذر، فإن صاحبنا سئل عنها فقال: من يقم الحول يصبها].
قال زر بن حبيش رحمة الله عليه لـ أبي بن كعب: يا أبا المنذر! أخبرني عن ليلة القدر، فإن صاحبنا -أي: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- سئل عنها فقال: من يقم الحول يصبها.
يعني: من يكون مواصلاً على قيام الليل في جميع أيام السنة فإنه يوافقها ويصيبها؛ لأنها في السنة، فقال أبي رضي الله عنه: رحم الله أبا عبد الرحمن كره أن يعرفوها ويتكلوا عليها ويتركوا العمل في غيرها، فأراد أن يكون عملهم في طول السنة، وفي جميع الليالي؛ لأن العمل الدائم والمستمر فيه الخير الكثير، وفيه موافقة هذه الليلة المباركة.
لكن الأمر الذي لا شك فيه أنها في رمضان وفي العشر الأواخر منه، ولهذا أخبر أبي رضي الله عنه بعدما ترحم على أبي عبد الرحمن وبين أن السبب الذي جعله يقول هذا الكلام، هو: جعل الناس يجتهدون في العبادة طول العام، وفي جميع ليالي السنة، وكل يصلي لنفسه، ولذلك يوافق ليلة القدر، وقال: إن أبا عبد الرحمن يعلم أنها في رمضان.
[والله لقد علم أنها في رمضان، ولكن كره أن يتكلوا أو أحب ألا يتكلوا].
شك من الراوي.
يقول أبي: إن عبد الله بن مسعود يعلم أنها في رمضان، ولكن ما الذي دفعه إلى أن قال: من يقم السنة يدركها؟ هذا كلام صحيح، فهو لم يقل: إنها تكون في جميع أيام السنة ومنها رمضان ومنها العشر الأواخر، فمن تحصل منه المداومة على العمل في جميع الليالي فإنه لا بد وأن يدركها، يحصلها، يمر عليها.
(ولكن كره أن يتكلوا) معناه: أنهم ربما يتكاسلوا ولا يشتغلوا في جميع الليالي، وإذا جاءت تلك الليلة اجتهدوا فيها وتركوا ما سواها، ولعل هذا هو السر الذي من أجله لم يأت تحديدها بليلة معينة من العشر الأواخر، لكنها في جميع العشر الأواخر، والإنسان إذا اجتهد في العشر الأواخر فإنه يحصلها.
قوله: [والله إنها لفي رمضان ليلة سبع وعشرين لا يستثني].
يقول ذلك أبي ولا يستثني، يعني: لا يقول: إن شاء الله، والاستثناء هو قول: إن شاء الله في اليمين، يعني: أنه متحقق من أنها في ليلة سبع وعشرين.
قوله: [قلت: يا أبا المنذر! أنّى علمت ذلك؟ قال: بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لـ زر: ما الآية؟ قال: تصبح الشمس صبيحة تلك الليلة مثل الطست ليس لها شعاع حتى ترتفع].
فسئل أبي رضي الله عنه عن الآية أو العلامة التي يستدل بها عليها، فقال: تكون الشمس في صبيحتها كالطست لا شعاع لها، معناه: أنه يمكن رؤيتها كلها ليس فيها الشعاع الذي ينبعث منها، وإنما تكون ظاهرة بارزة للناس، فلا يكون هناك الشعاع الذي يسترسل منها، ويمتد منها كالخيوط، وإنما تكون كالطست مستديرة ترى جميع أطرافها وأجزائها دون أن يكون هناك شعاع يمنع من رؤية هيئتها وشكلها.
ولعله عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم العلامة وجربها، أو نظر في الليالي فوجدها كذلك، ولهذا فإن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين، ولا شك أنها أرجى الليالي وأقربها، ولكن لا يقطع بذلك؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم نصوص عديدة تدل على ليالي أخرى، وقد وقعت في زمنه صلى الله عليه وسلم في ليلة واحد وعشرين، ولهذا يظهر والله أعلم أنها ليست ثابتة مستقرة في ليلة في جميع السنين؛ لأنها حصلت فعلاً في ليلة واحد وعشرين في زمنه صلى الله عليه وسلم، وجاءت نصوص أخرى عنه: (التمسوها في السبع الأواخر) والسبع الأواخر ليست فيها ليلة واحد وعشرين، ومعنى هذا: أن ليلة القدر تكون في سبع وعشرين لكن لا يقطع بذلك ولا يجزم به.
ويمكن أن تكون في الأشفاع والأوتار؛ ففي بعض الأحاديث أنها تكون في التسع الباقية، إذا ذهبت ليلة واحد وعشرين جاءت ليلة اثنين وعشرين وهي شفع، فهي تكون في العشر الأواخر ولكنها تكون في الأوتار أرجى، وفي ليلة سبع وعشرين أرجى من غيرها.