قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا جعفر -يعني ابن برقان - عن يزيد -يعني ابن الأصم - عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه قال:(الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)].
أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الأرواح جنود مجندة) أي: أنها جند من جنود الله الكثيرة التي خلقها الله تعالى وأوجدها، والإنسان يتكون من الروح والجسد، والروح مخلوق من مخلوقات الله، ولا يعلم كيفيتها وكنهها إلا الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا فإن الروح من جملة المخلوقات التي يكون بها حياة الإنسان، والناس لا يعرفون كنهها، ولا يعرفون كيفيتها ولا وصفها، ولا كيف هي، فهي خلق موجود به حياة الإنسان إذا نفخ فيه الروح دبت فيه الحياة، وإذا فارقته الروح فارق الحياة، ومع ذلك لا أحد يعرف كيفية هذه الروح.
وإذا كانت الروح مخلوق من مخلوقات الله، والناس لا يعرفون كيفيتها ولا كنهها، فالله عز وجل الذي هو الخالق له ذات متصفة بالصفات ولا يعلم الخلق كنهه، فإذا كان الناس يجهلون مخلوقاً من مخلوقات الله به حياتهم، فكيف يفكرون في ذات الله عز وجل، أو يبحثون عن ذات الله عز وجل، أو يكيفون ذات الله وصفاته؟! فالواجب عليهم أن يثبتوا لله عز وجل كل ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله على وجه يليق به دون تكييف أو تمثيل أو تشبيه، ودون تحريف أو تعطيل أو تأويل، بل على حد قول الله عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:١١].
فإذا كانت الروح مخلوق من مخلوقات الله، وهم عاجزون عن إدراك كنهه وكيفيته، مع أنه فيهم، فإن الإنسان يتألف من الروح والجسد، ومع ذلك لا يعرف شكل هذه الروح، ولا كيفيتها، ولا يستطيع أن يصف هذه الروح، فكيف يجهل الإنسان الروح ثم يفكر في ذات الله، ويسأل عن كيفية الله عز وجل وكيفية صفاته؟! لا شك أن هذا من الأمور المحرمة المبتدعة؛ ولهذا جاء رجل إلى مالك بن أنس رحمه الله وسأله عن كيفية الاستواء قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
لأننا لا نعرف الذات ولا نعرف كيفية الصفة، ولكن معنى الصفة معروف، فاستوى بمعنى: علا وارتفع، لكن كيف علا وارتفع؟ الله تعالى أعلم.
فقوله:(الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) يعني: بعضها يأتلف مع بعض، وبعضها يختلف مع بعض، ولا شك أن هذا مشاهد معاين، فإننا نجد النفوس يميل بعضها إلى بعض، ويتعارف مع بعض، ونجد بعضها يبتعد عن بعض وينفر عن بعض، وقد قيل: إنها كذلك أيضاً قبل أن تدخل في الأجساد.
وأما كونها تتعارف بعد الدخول في الأجساد فهذا موجود وحاصل، ومعلوم أن الجسد وحده لا يوصف بحياة ولا يوصف بعلم وإدراك إلا إذا كانت الروح فيه، ومع ذلك الأرواح بأجسادها يكون بينها التعارف والتناكر.
فالأرواح قبل أن تدخل في الأجساد وحين كانت منفصلة عن الأجساد تكون متعارفة ومتناكرة، كما قال هذا بعض أهل العلم أخذاً بهذا العموم، والله تعالى أعلم.