[شرح حديث الجارية]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الرقبة المؤمنة.
حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن الحجاج الصواف حدثني يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! جارية لي صككتها صكة، فعظم ذلك عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها.
قال: فجئت بها، قال: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة).
] أورد أبو داود هذه الترجمة وهي [باب الرقبة المؤمنة]، أي: في الكفارة, يعني: هل يشترط وصف الإيمان للرقبة التي تعتق أم أنه يعتق أي رقبة ولو كانت كافرة؟ فمثلاً: جاء في كفارة اليمين أنها عتق رقبة ولكنها جاءت مطلقة في القرآن, غير مقيدة بالإيمان, وكذلك جاء في كفارة الظهار عتق رقبة وجاءت غير مقيدة, ولم تأت مقيدة بالإيمان إلا في كفارة القتل, فجمهور العلماء حملوا المطلق على المقيد, وقالوا: إن النفس التي تعتق تكون مؤمنة, ومن أهل العلم من أجاز أن تكون كافرة, ولكن الجمهور على أنها لابد أن تكون مؤمنة ولا يجوز أن تكون كافرة.
ولا شك أن القول بأنها لابد أن تكون مؤمنة هو القول الذي يجعل الإنسان يطمئن أنه قد أبرأ ذمته في الكفارة، والقول بإعتاق الرقبة الكافرة لا يكون فيه اطمئنان إلى براءة الذمة.
إذاً: القول بحمل المطلق على المقيد كما جاء في القرآن هو الذي فيه السلامة والاطمئنان إلى براءة الذمة.
وقد أورد أبو داود حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أنه كانت له جارية, وكانت ترعى غنماً، فجاء الذئب وأخذ شاة منها, ثم جاء وسأل عنها, فقالت: أخذها الذئب، فصكها، ثم ندم وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فعظم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, أي: أخبره أن ضرب الجارية وصكها أمر عظيم، فقال: ألا أعتقها يا رسول الله؟! قال: (ائتني بها.
فأتاه بها, فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء.
قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله.
قال: أعتقها فإنها مؤمنة).
فلما قالت: (إن الله في السماء) حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بإيمانها وأقرها على ذلك، وهذا كقول الله عز وجل: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] والمراد بالسماء: العلو, وليس المراد به السماء المبنية أو السموات السبع, فإن الله لا يحويه شيء مخلوق، وإنما هو فوق العرش بائن من خلقه لا يحويه شيء من مخلوقاته.
فالمقصود بقوله: (في السماء) أي: في العلو, ومعلوم أن العلو يطلق على كل ما علا الإنسان، فكل ما فوق الإنسان يقال له: علو، والسماء المبنية والتي هي شيء وجودي هي مخلوقة، والله عز وجل لا يحويه شيء مخلوق, فلا يقال: إنه في السماء وإن السموات تحويه؛ لأنه سبحانه وتعالى فوق العرش, وإنما المقصود بالسماء العلو, وما فوق العرش يقال له: علو, ويقال له: سماء.
إذاً: الله سبحانه وتعالى في السماء أي: فوق العرش, وليس في السماء دون العرش, أي: السماء المبنية.
وهذه العقيدة التي قالتها هذه الجارية هي عقيدة الفطرة التي فطر الله الناس عليها, والناس الذين لم يتعلموا علم الكلام ولم يبتلوا به لم يخرجوا عن الفطرة, فعقيدة الفطرة هي عقيدة هذه الجارية التي قالت: (إن الله في السماء)، ولهذا جاء عن عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه أنه سأله رجل عن شيء من الأهواء, فقال له: (الزم عقيدة الصبي والأعرابي واله عما سوى ذلك)، أي: لأن الصبي والأعرابي على الفطرة, والذي يكون على الفطرة تكون عقيدته هي العقيدة الصحيحة, وأما الذين اعتقدوا شيئاً مخالفاً لهذه العقيدة فإنما جاءهم البلاء بخروجهم عن الفطرة, وخروجهم عن هذه العقيدة الحقة الصحيحة السليمة التي دل عليها كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبعض المتكلمين الذين ابتلوا بعلم الكلام منهم من آل أمره إلى الندم والحيرة بعد توغله في علم الكلام وتمكنه منه, وقد جاء عن الرازي -وهو ممن تمكن من علم الكلام- أنه قال: الفائز من كان على عقيدة العجائز، يعني: العوام.
وجاء عن أبي المعالي الجويني أنه قال: أموت على عقيدة عجائز نيسابور.
وهذا يعني أن المتكلمين الذين ابتلوا بعلم الكلام منهم من آل أمره إلى الحيرة, وبعد ذلك تبين له أن الفطرة والشيء الذي عليه العوام هو الحق والهدى, وأن هذا العلم الذي تعلموه وخرجوا به عن الفطرة أوقعهم في الحيرة والندم, ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية, وشارح الطحاوية، والشهرستاني وغيرهم مقولات عديدة عن جماعة من المتكلمين، منهم الرازي والجويني وابن أبي الحديد , نقلوا عنهم ما يدل على حيرتهم وندمهم, وفيهم من صرح بأن السلامة إنما هي في عقائد العوام وفيما عليه العوام, وهذا هو الذي قال عنه عمر بن عبد العزيز: (الزم عقيدة الصبي والأعرابي واله عما سوى ذلك) , يعني: ابتعد عما سوى ذلك.
وفي هذا الزمان انتشر مذهب الأشاعرة, ومذهب الأشاعرة ليس هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ لأن الأشاعرة يثبتون سبع صفات, والسبع الصفات التي أثبتوها لم تسلم من التأويل, كصفة الكلام، وهي واحدة من السبع, وما سوى ذلك يؤلونه.
وهذه العقيدة التي ابتلي بها كثير من الناس سبب ذلك هو دراستها، فإنهم درسوها فخرجوا عن الفطرة التي هي عقيدة العجائز والعوام، ولهذا يقول بعض الناس في هذا الزمان: إن ٩٥% من المسلمين أشاعرة, وهذا كلام ليس بصحيح؛ لأن الأشاعرة هم المتعلمون الذين درسوا مذهب الأشاعرة, وأما العوام وهم الأكثرية الكاثرة فهم على الفطرة, ولم يخرجوا عن الفطرة، وإنما خرج عنها الذين تعلموا هذه العقيدة التي خرجوا بها عن الفطرة, وإلا فالذين بقوا على الفطرة -وهم الأكثرية- ليسوا أشاعرة, بل الأشاعرة هم الذين درسوا في مؤسسات تدرس عقيدة الأشاعرة.
والحاصل: أن هذا الحديث في سؤال الرسول إياها وأنها قالت: في السماء، فيه إثبات صفة العلو لله عز وجل، وهو مثل ما جاء في القرآن: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:١٦] , والمقصود بذلك: العلو, والله تعالى عالٍ على خلقه, وفوق عرشه المجيد بذاته سبحانه وتعالى، فله علو القدر وعلو القهر وعلو الذات سبحانه وتعالى.
وقوله: (فإنها مؤمنة) فيه إشارة إلى أن الرقبة التي تعتق تكون مؤمنة.
وبعض المتكلمين من الأشاعرة يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب الجارية على قدر عقلها! وهذا كلام باطل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء, قال: أعتقها فإنها مؤمنة)، فحكم الرسول صلى الله عليه وسلم بإيمانها, إذاً: هذا الشيء الذي قالته هو خلاف عقيدة الأشاعرة؛ ولذا يقال لهم: هل أقرها الرسول على باطل؟! وهل هذه العقيدة التي ابتلي بها بعض الناس وجاءت بعد زمن الصحابة حجب عنها الصحابة وادخرت لمن بعدهم؟! وهل تكون هناك عقيدة حقة تحجب عن الصحابة ولا يعرفونها ولا يظفرون بها, ويظفر بها أناس يجيئون بعدهم؟! هل هذا يعقل؟!
و
الجواب
أبداً لا يكون ذلك, بل الحق والهدى هو ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولو كانت هذه العقيدة التي عليها الأشاعرة خيراً لسبق إليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن العقيدة التي كانوا عليها هي أنهم كانوا يثبتون النصوص على ما تقتضيه على وجه يليق بجلال الله تعالى, دون أن يفكروا بتشبيه أو تعطيل أو تأويل.
ولو أن الناس بقوا على مثل عقل هذه الجارية الذي هو عقل السلامة لكان خيراً لهم.