[إثبات فضل الصحابة في الكتاب والسنة]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا عمرو بن عون أنبأنا ح وحدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم -والله أعلم أذكر الثالث أم لا- ثم يظهر قوم يشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويفشو فيهم السمن)].
يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [باب في فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم].
هذه الترجمة معقودة لبيان الفضل الذي أكرم الله به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن لهم ميزة تميزوا بها على غيرهم، وهي أنهم وجدوا في القرن الذي بعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكرمهم الله عز وجل في هذه الحياة الدنيا بصحبته، ومتع أبصارهم بالنظر إلى طلعته صلى الله عليه وسلم، وشنف أسماعهم بسماع حديثه من فمه الشريف، وأكرمهم ووفقهم للجهاد معه ونصرته والذب عنه، فصارت لهم هذه الفضائل وهذه الميزات التي ميزهم الله تعالى بها، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:٢١] ولهذا فإن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام فضلوا على غيرهم بكونهم القرن الذي بعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم خير الناس: (خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم) والمراد بالقرن هنا: المجموعة من الناس الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وصحبوه، فهؤلاء هم قرنه أو القرن الذي بعث فيه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فليس المقصود به مدة معينة محددة لها بداية ولها نهاية، وإنما المقصود منه هؤلاء القوم وهؤلاء الصحب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وأكرمهم الله بصحبته، وسمعوا كلامه وحديثه، ورأوا شخصه وطلعته صلى الله عليه وسلم، وتلقوا الحق والهدى منه، وبلغوهما إلى الناس، فجعلهم الله عز وجل الواسطة بين الناس وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، ما عرف الناس حقاً ولا هدى، ولا وصل إلى الناس كتاب ولا سنة إلا عن طريق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا اشتهر عند العلماء أن الصحابي لا يحتاج إلى أن يعدل وأن يوثق، ولا يحتاج إلى أن يقال: فلان ثقة، وفلان عدل، وفلان كذا وفلان كذا، إذ يكفيهم تعديل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وثناء الله وثناء رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ولهذا كان المجهول فيهم في حكم المعلوم، فجهالة الصحابي لا تؤثر، أما من دون الصحابة فإن جهالتهم تؤثر، ولهذا يأتي في كتب الحديث ذكر الرواية عن الصحابة، فيقال: عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حجة ومتفق عليه عند أهل السنة، ولا خلاف في ذلك، أما من دون الصحابة من التابعين ومن دونهم، فإنه يحتاج إلى معرفة أحوالهم وإلى بيان عدالتهم وبيان جرحهم من تعدليهم، وقد يقال في بعض الصحابة: فلان صحابي من أهل بدر، أو شهد بيعة الرضوان، أو شهد بدراً، وذلك للفضل الذي حصل لأهل بدر والفضل الذي حصل لأهل بيعة الرضوان، أي: ليبين أنه من أهل هذا الفضل وممن دخل في هذا الفضل الذي هو كونه بدرياً أو كونه ممن شهد بيعة الرضوان، وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة مبينة قدر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان فضلهم ونبلهم، وأثنى الله عليهم وأثنى عليهم رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وجاء في ذلك آيات كثيرة، وجاء في ذلك أحاديث عديدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما جاء في القرآن في فضل الصحابة قول الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [التوبة:١٠٠]، وكذلك قول الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:٢٩].
فهذه الآية الكريمة فيها بيان أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكروا في التوراة والإنجيل، وأنهم ذكروا في الكتب السابقة قبل أن يوجدوا وقبل أن يأتي زمانهم، وهذا دال على فضلهم ونبلهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم قد ذكروا في تلك الكتب وأثني عليهم فيها، وهذا مما يدل على فضلهم، وفيه أنهم يغاظ بهم الكفار، وذلك لأنهم يقومون بنصرة الدين بالجهاد في سبيل الله، فالكفار يغاظون بهم، ولهذا قال: ((لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)) ثم أخبر أنه وعدهم بمغفرة ورحمة فقال: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)) والمقصود من ذلك الصحابة، وقد قال منهم، وليس المقصود (من) التبعيضية، وإنما بياناً للجنس، ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً)) أي أن هذا الوعد إنما هو لهم، ولو لم يأت بكلمة (منهم) لصار الأمر لا يخصهم، فلو قيل: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجراً عظيماً.
فيكون لهم ولغيرهم، لكن لما جاءت كلمة (منهم) عرف أن هذا الوعد لهم، لكن ليس لبعضهم وإنما هو لجميعهم، لأن من بيانية، وليست تبعيضية، ونظير ذلك قول الله عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:٧٣] فقوله: ((الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ)) ليس المقصود بعضهم، بل كل الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة توعدوا بهذا الوعيد، فكلمة منهم لبيان الجنس وليست للتبعيض.
فقوله: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً)) (من) في قوله: (منهم) لبيان الجنس في جانب المدح وفي جانب أهل الحق، وقد تأتي لبيان الجنس في الذم مثل قوله تعالى: ((لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) أي: من الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، فهذا في جانب الذم وفي جانب السوء، مع أنهم كلهم موعودون بهذا الوعد، وليس بعضهم؛ لأن (من) هنا لبيان الجنس وليست للتبعيض.
وكذلك قول الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:١٠] فإنه وإن حصل بينهم التفاوت في الدرجات وعلو المنازل إلا أن الكل وعد الحسنى، والحسنى هي: الجنة، كما قال الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦].
أما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على فضل الصحابة وعظيم منزلتهم.