[شرح حديث (لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله عز وجل)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في التعزير.
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عن أبي بردة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله عز وجل)].
قوله: [باب في التعزير]، التعزير: هو العقوبة التي ليس فيها حد؛ لأن الحد عقوبة مقدرة في الشرع، والتعزير عقوبة غير مقدرة، والحدود كقطع يد، وجلد ثمانين جلدة، ومائة جلدة، فهذا شيء مقدر، وأما التعزير فإنه غير مقدر، هذا هو الفرق بين التعزير والحد.
قوله: [(لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله)].
مقتضى هذا الحديث أن التعزير يكون في عشر جلدات فأقل، ومن أهل العلم من قال: إنه يجلد لكن لا يبلغ به إلى حد أدنى الحدود وهو أربعون في الخمر أو عشرون، على اعتبار أنها تنصف في حق الرقيق؛ لأن الحد على الرقيق هو نصف ما على الأحرار، فالتعزير إما ألا يبلغ العشرين التي هي الحد الأدنى في عقوبة العبيد والأرقاء، أو لا يبلغ الأربعين التي هي الحد الأدنى في عقوبة الأحرار.
وقد اختلف العلماء في ذلك: فمنهم من أخذ بالحديث، ومنهم من قال: إن التعزير يمكن أن يصل إلى حد القتل إذا اتضح أن الأمر لا يردع فيه إلا بمثل ذلك، ولا يترك الناس ذلك العمل إلا بالقتل، كما جاء فيما يتعلق بالخمر، فإنه يمكن أن يصل إلى حد القتل، ولكن هذا فيما يتعلق بالجلد.
وهل يزاد على عشر جلدات؟ قال في عون المعبود: قال في الفتح: ظاهره أن المراد بالحد ما ورد فيه من الشارع عدد من الجلد أو الضرب مخصوص أو عقوبة مخصوصة، والمتفق عليه من ذلك حد الزنا والسرقة وشرب المسكر والحرابة، والقذف بالزنا، والقتل، والقصاص في النفس والأطراف، والقتل في الارتداد، واختلف في تسمية الأخيرين حداً.
واختلف في مدلول هذا الحديث، فأخذ بظاهره الإمام أحمد في المشهور عنه وبعض الشافعية، وقال مالك والشافعي وصاحبا أبي حنيفة: تجوز الزيادة على عشر، ثم اختلفوا، فقال الشافعي: لا يبلغ أدنى الحدود، وهل الاعتبار بحد الحر أو العبد؟ قولان، وقال الآخرون: هو إلى رأي الإمام بالغاً ما بلغ، وأجابوا عن ظاهر الحديث بوجوه، منها: الطعن فيه، وتعقب بأنه اتفق الشيخان على تصحيحه، وهما العمدة في التصحيح.
ومن الأجوبة: أن عمل الصحابة جاء بخلافه، فيقتضي نسخه، فقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: ألا تبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطاً، وعن عثمان: ثلاثين، وضرب عمر أكثر من مائة وأقره الصحابة، وأجيب بأنه لا يلزم في مثل ذلك النسخ.
ومن الأجوبة: حمل الحديث على واقعة عين بذنب معين أو رجل معين قاله الماوردي، وفيه نظر ذكره القسطلاني.
قلت: ومن أوجه
الجواب
قصره على الجلد، وأما الضرب بالعصا مثلاً وباليد فتجوز الزيادة، لكن لا يجاوز أدنى الحدود، وهذا رأي الإصطخري من الشافعية.
قال الحافظ: كأنه لم يقف على الرواية الواردة بلفظ الضرب.
انتهى.
وليس عند الذين لم يقولوا بظاهر الحديث جواب شاف، قال في النيل: قال البيهقي: عن الصحابة آثار مختلفة في مقدار التعزير، وأحسن ما يصار إليه في هذا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر حديث أبي بردة المذكور.
قال الحافظ: فتبين بما نقله البيهقي عن الصحابة أن لا اتفاق على عمل في ذلك، فكيف يدعى نسخ الحديث الثابت ويصار إلى ما يخالفه من غير برهان؟ انتهى.
أقول: الخلاف واضح، لكن كونهم اختلفوا وقد حصلت الزيادة، فإنه يدل على أن الزيادة سائغة عند الحاجة، وليس بلازم أن يكون في ذلك اتفاق.
قوله: (إلا في حد من حدود الله).
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن المراد بالحدود هنا المعاصي والذنوب، وليس المقصود بها الحدود المقدرة كحد السرقة وحد القذف وحد الزنا، وإنما المراد بها الذنوب والمعاصي.
ومعنى ذلك: أنه لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله، يعني: في ذنب من الذنوب، فيكون المقصود بالحد المعاصي التي حرمها الله عز وجل كما قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:١٨٧]، وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:٢٢٩] أي: الأمور التي حدها وحرمها.
وعليه: فتجوز الزيادة على عشرة أسواط في العقوبة على معصية الله عز وجل، لكن ما كان من أجل التأديب تأديب الأولاد أو كتأديب الرجل امرأته، مما لا يتعلق بمعصية، فلا يزاد فيه على عشرة أسواط.