[شرح حديث خباب: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فشكونا إليه)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الأسير يكره على الكفر.
حدثنا عمرو بن عون أخبرنا هشيم وخالد عن إسماعيل عن قيس بن أبي حازم عن خباب رضي الله عنه أنه قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فشكونا إليه فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فجلس محمراً وجهه فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ثم يؤتى بالمنشار فيجعل على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون)].
أورد أبو داود باب في الأسير يكره على الكفر يعني كونه مأسوراً ويكره على أن يكون كافراً فيرجع عن الإسلام إلى الكفر، والعياذ بالله.
فكون الأسير يثبت على الإسلام ولو قتل هذا هو الذي يدل عليه حديث خباب بن الأرت، ولو أن إنساناً أكره على الكفر ثم أظهر الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فإن ذلك ينفعه، ولا يكون كافراً بذلك كما جاء في القرآن الكريم، ولكن كونه يصبر ويثبت على دينه حتى لو قتل فإن هذا يكون أولى؛ حيث يدل على عزة المسلم وعظم شأن إسلامه، وأنه يثبت على الدين ولو قتل في سبيل دينه، ولكنه إن لم يصبر وأراد أن يتخلص من القتل بأن يظهر الكفر مع اطمئنان قلبه بالإيمان ومع كونه إنما يقول ذلك بلسانه دون قلبه فإنه معذور، ولا بأس بذلك.
وأورد أبو داود حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه أنهم جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقالوا له وقت إيذاء المشركين لهم: [يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟] أي: تطلب النصر لنا من الله عز وجل فيظهرنا على أعدائنا.
فجلس صلى الله عليه وسلم محمراً وجهه من الغضب، فأخبرهم بأن الله عز وجل سيظهر دينه، ولكن الله عز وجل يبتلي المؤمنين بالكفار والكفار بالمؤمنين، والله عز وجل قادر على أن ينصر نبيه بدون قتال وبدون جهاد، ولكنه شاء أن يكون القتال والصراع بين الحق والباطل والمؤمنين والكفار، كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:٤].
فالله عز وجل قادر، ولو شاء أن ينصر المسلمين على الكفار بدون قتال لحصل ذلك، ولكنه شاء أن يبتلى المؤمنون بالكفار ليصلوا إلى ما يصلون إليه بأعمال صالحة وبهمم عالية، فقوله تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد:٤] يعني: الكفار ((وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)) يعني: أن الوصول إلى هذه الغاية يكون بتعب؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) فالطريق الموصل إلى الجنة فيه تعب ونصب، ويحتاج الإنسان فيه إلى صبر، ولا بد من الصبر على طاعة الله، ولا بد من الصبر عن معاصي الله، ولا بد من الصبر على أقدار الله؛ لأن الجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات، كما قال ذلك رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
قوله: [(قد كان من قبلكم)].
يعني في الأمم السابقة كان يؤتى بالرجل فيحفر له حفرة ثم يدفن فيها حتى لا يهرب وحتى لا يفر؛ لأن جسمه قد دفن في الأرض وما بقي إلا رأسه ظاهراً، فيؤتى بالمنشار ويطلب منه أن يرجع عن دينه ويترك دينه، فيأبى ويبقى على دينه فيفلق فلقتين، وكان يؤتى بأمشاط الحديد ثم تحرك على رأس الإنسان فتقطع كل ما تمر به دون العظم من عصب ولحم، كل ذلك من أجل أن يرجع عن دينه فلا يرجع، وهذا أذىً شديد وعذاب عظيم، ومع ذلك كانوا يصبرون، فأنتم مطلوب منكم أن تقاتلوا المشركين وأن تصبروا، والله عز وجل قادر على نصرة أوليائه، ولكنه شاء أن يبتليهم.
قوله: [(والله ليتمن الله هذا الأمر)].
يعني أن الغاية التي تريدونها والأمر الذي تريدونه سيحصل، وهذا من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، وهو أنه يخبر بالأمور المستقبلة والأمور المغيبة فتقع كما أخبر، وكان الصحابة يصدقون بحصولها ووقوعها حينما يبلغهم الخبر بها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيصدقون ويؤمنون بأن ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام لا بد أن يوجد.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر الذي يريدونه أنه سيحصل، ولكن الله شاء أن يكون الطريق الموصل إليه فيه تعب وفيه نصب، ولا يحصل بسهولة ويسر بدون أن يتعبوا وبدون أن ينصبوا وبدون أن يتميز من يصبر ممن لا يصبر، ومن يثبت ممن لا يثبت، فقال صلى الله عليه سولم: [(والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه)] يعني: لا يخاف إلا الله عز وجل الذي هو النافع الضار والذي لا يحصل نفع إلا بقضائه وقدره، ولا يحصل ضرر إلا بقضائه وقدره، كما قال عليه الصلاة والسلام في وصيته لـ ابن عباس (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بحصول الأمن وأن الراكب سيسافر وحده، بل جاء في بعض الأحاديث أن الضعينة ستسافر وحدها لا تخشى أحداً.
وكذلك لا يخاف إلا الذئب على غنمه، وهذا من الأسباب العادية التي جعلها الله عز وجل من أسباب إلحاق الضرر بالشخص، وهي بقضاء الله وقدره، وفي ذلك بيان أن الأسباب تخشى، ولكن لا تكون خشيتها على اعتبار أن الأمر حاصل منها ومتعلق بها، بل ذلك بقضاء الله وقدره؛ لأنه لا يكون شيء من الأسباب ضاراً إلا وقد جعله الله ضاراً، ولا يكون سبب نافعاً إلا وقد جعله الله نافعاً، وقد يوجد السبب ولا يوجد المسبب، فقد يوجد الذئب، ولكن الله تعالى يعصم ويحفظ الغنم من أن يصل إليها الذئب، وقد يقدر الله عز وجل أن الذئب يصيبها.
قوله: [(ولكنكم تعجلون)] أي: تستعجلون فتريدون أن تحصل الأمور بدون تعب، وتريدون أن يحصل لكم شيء بدون مقابل وبدون نصب، والأمر هو كما قال عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات).