[شرح حديث:(دع الخفين فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان)]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا مسدد حدثنا عيسى بن يونس حدثني أبي عن الشعبي قال: سمعت عروة بن المغيرة بن شعبة يذكر عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركبه ومعي إداوة، فخرج لحاجته، ثم أقبل فتلقيته بالإداوة، فأفرغت عليه فغسل كفيه ووجهه، ثم أراد أن يخرج ذراعيه وعليه جبة من صوف من جباب الروم ضيقة الكمين فضاقت فادّرعهما ادّراعاً، ثم أهويت إلى الخفين لأنزعهما فقال لي: دع الخفين؛ فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان فمسح عليهما) قال أبي: قال الشعبي: شهد لي عروة على أبيه وشهد أبوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم].
ذكر أبو داود هذا الحديث تحت ترجمة: المسح على الخفين، وقد ذكرنا أن الأحاديث فيه متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها قد جاءت عن جماعة كثيرة من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وأن هذا مما تميز في السنة، وأن بعض أهل البدع كالرافضة لا يقولون بذلك ولا يمسحون على الخفين، وقد تواترت في ذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أورد أبو داود رحمه الله جملة من الأحاديث مرت في الدرس الماضي، وهذه أحاديث أو طرق أخرى لتلك المسألة التي جاءت في الترجمة، وهي المسح على الخفين، فأورد حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في ركبه يعني: كان في ركب، والركب: هو الجماعة المسافرون على الدواب، قال: فقضى حاجته.
وكان مع المغيرة إداوة، وهي: الإناء الذي فيه الماء الذي يتوضأ به، قال: فلما انتهى أقبل فتلقاه المغيرة فجعل يصب عليه، وكان عليه جبة من صوف من جباب الروم، وكانت ضيقت الكمين، فلما غسل وجهه وأراد أن يغسل اليدين إلى المرفقين إذا الكمان ضيقان لا يمكن معهما إخراج الذراعين حتى يتمكن من غسلهما، فأخرجهما من الداخل ورفع الجبة على كتفيه ومد يديه، فجعل المغيرة يصب عليه وهو يغسلهما، فغسلهما إلى المرفقين، ثم لما وصل إلى الرجلين وكان عليه خفان أهوى المغيرة بن شعبة إلى الخفين لينزعهما أي: ليغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلين، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال:(دعهما؛ فإني أدخلت القدمين في الخفين وهما طاهرتان) يعني: أنه أدخلهما وهو على وضوء، وفي هذا دليل على أنه يقال للمتوضئ: متطهر، أو إنه على طهارة، وليس المقصود أن الطهارة لا تكون إلا في مقابل النجاسة؛ فإن الطهارة يراد بها الوضوء، والإنسان إذا لم يكن متوضئاً يكون على غير طهارة، وإذا توضأ يكون على طهارة، لكن ليس معنى ذلك أن عدم الوضوء يكون فيه نجاسة، فهو حصل له الحدث ولم يرفعه، وإذا رفعه فإنه يوصف بأنه على طهارة، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال:(دعهما فإني أدخلتهما وهما طاهرتان) يعني: أدخل النعلين في الخفين بعد الطهارة.
وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا توضأ فليس له أن يلبس الخفين إلا بعد غسل الرجل اليسرى؛ لأنه بذلك يكون على تمام الطهارة، ويعتبر متوضئاً متطهراً، ولا يجوز له أن يغسل الرجل اليمنى ثم يلبس الخف، وإذا لبس الخف غسل الرجل اليسرى؛ لأنه إذا فعل ذلك يكون لبس وهو على غير تمام الطهارة؛ لأن الإنسان لا يعتبر متوضئاً إلا إذا أكمل غسل الرجل اليسرى التي هي آخر أعضاء الوضوء، فلو غسل اليمنى ثم لبس الخف قبل أن يغسل اليسرى فلبسه غير صحيح، ولا يجوز له أن يمسح؛ لأنه لبس الخف وهو على غير طهارة؛ لأنه ما دام أنه غسل الرجل اليمنى واليسرى ما غسلت فإن الطهارة ما وجدت إلى الآن؛ إذ لا توجد الطهارة إلا إذا أكمل الوضوء.
وبعض أهل العلم قال: إن ذلك يصح، لكن قوله صلى الله عليه وسلم:(إني أدخلتهما وهما طاهرتان) يعني: أن الطهارة إنما تكون بعد الفراغ من الوضوء، وليست في أثناء الوضوء، وهذا هو الذي يتضح به النص، وهو الذي فيه الاحتياط في الدين أيضاً؛ لأن هذا لا شبهة ولا إشكال فيه، وأما ذاك ففيه شبهة وفيه إشكال، وأيضاً لم تكن الطهارة موجودة؛ لأن المقصود بالطهارة الطهارة الشرعية، وليس المقصود بها النظافة، فالنظافة قد يراد بها الطهارة اللغوية؛ لأن تغسيل اليدين يقال له: وضوء أي: أنه تنظف؛ لأن الوضوء مأخوذ من الوضاءة وهي النظافة والنزاهة، فالمقصود الطهارة الشرعية التي هي كمال الوضوء.
وقوله:(فإني أدخلتهما وهما طاهرتان) أي: أدخلت القدمين في الخفين وهما طاهرتان، أي: أنه قد غسلهما قبل لبس الخفين.
(فمسح عليهما)، أي: مسح على الخفين، وهذا محل الشاهد للترجمة التي هي: المسح على الخفين، فهو لم ينزع الخفين، ولم يأذن للمغيرة أن ينزع الخفين، بل مسح عليهما؛ لأنه لبسهما وهو على طهارة أي: على وضوء.