للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما ألقي عليه كلّه كأنّه في لحظة واحدة بل أقرب من لمح البصر لأنّه ليس في زمان بل كلّها تقع جميعا فيظهر كأنّها سريعة ولذلك سمّيت وحيا لأنّ الوحي في اللّغة الإسراع واعلم أنّ الأولى وهي حالة الدّويّ هي رتبة الأنبياء غير المرسلين على ما حقّقوه والثّانية وهي حالة تمثّل الملك رجلا يخاطب هي رتبة الأنبياء المرسلين ولذلك كانت أكمل من الأولى وهذا معنى الحديث الّذي فسّر فيه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الوحي لمّا سأله الحارث بن هشام وقال: كيف يأتيك الوحي؟

فقال: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثّل لي الملك فيكلّمني فأعي ما يقول» وإنّما كانت الأولى أشدّ لأنّها مبدأ الخروج في ذلك الاتّصال من القوّة إلى الفعل فيعسر بعض العسر ولذلك لمّا عاج فيها على المدارك البشريّة اختصّت بالسّمع وصعب ما سواه وعند ما يتكرّر الوحي ويكثر التّلقّي يسهل ذلك الاتّصال فعند ما يعرّج إلى المدارك البشريّة يأتي على جميعها وخصوصا الأوضح منها وهو إدراك البصر وفي العبارة عن الوعي في الأولى بصيغة الماضي وفي الثّانية بصيغة المضارع لطيفة من البلاغة وهي أنّ الكلام جاء مجيء التّمثيل لحالتي الوحي فمثّل الحالة الأولى بالدّويّ الّذي هو في المتعارف غير كلام وأخبر أنّ الفهم والوعي يتبعه غبّ انقضائه فناسب عند تصوير انقضائه وانفصاله العبارة عن الوعي بالماضي المطابق للانقضاء والانقطاع ومثّل الملك في الحالة الثّانية برجل يخاطب ويتكلّم والكلام يساوقه الوعي فناسب العبارة بالمضارع المقتضي للتّجدّد. واعلم أنّ في حالة الوحي كلّها صعوبة على الجملة وشدّة قد أشار إليها القرآن قال تعالى:

«إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ٧٣: ٥» وقالت عائشة: «كان ممّا يعاني من التّنزيل شدّة» [١] وقالت: «كان ينزّل عليه الوحي في اليوم الشّديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا» . ولذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط


[١] رواه ابن عباس وليست عائشة.

<<  <  ج: ص:  >  >>