للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الفصل الخامس والثلاثون في التفاوت بين مراتب السيف والقلم في الدول]

اعلم أنّ السّيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدّولة يستعين بها على أمره إلّا أنّ الحاجة في أوّل الدّولة إلى السّيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشدّ من الحاجة إلى القلم لأنّ القلم في تلك الحال خادم فقط منفّذ للحكم السّلطانيّ والسّيف شريك في المعونة وكذلك في آخر الدّولة حيث تضعف عصبيّتهما كما ذكرناه ويقلّ أهلها بما ينالهم من الهرم الّذي قدّمناه فتحتاج الدّولة إلى الاستظهار بأرباب السّيوف وتقوى الحاجة إليهم في حماية الدّولة والمدافعة عنها كما كان الشّأن أوّل الأمر في تمهيدها فيكون للسيف مزيّة على القلم في الحالتين ويكون أرباب السّيف حينئذ أوسع جاها وأكثر نعمة وأسنى إقطاعا وأمّا في وسط الدّولة فيستغني صاحبها بعض الشّيء عن السّيف لأنّه قد تمهّد أمره ولم يبق همّه إلّا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والضّبط ومباهاة الدّول وتنفيذ الأحكام والقلم هو المعين له في ذلك فتعظم الحاجة إلى تصريفه وتكون السّيوف مهملة في مضاجع أغمادها إلّا إذا أنابت نائبة أو دعيت إلى سدّ فرجة [١] وممّا سوى ذلك فلا حاجة إليها فتكون أرباب الأقلام في هذه الحاجة أوسع جاها وأعلى رتبة وأعظم نعمة وثروة وأقرب من السّلطان مجلسا وأكثر إليه تردّدا وفي خلواته نجيّا لأنّه حينئذ آلته الّتي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه والنّظر إلى أعطافه وتثقيف أطرافه والمباهاة بأحواله ويكون الوزراء حينئذ وأهل السّيوف مستغنى عنهم مبعدين عن باطن السّلطان حذرين على أنفسهم من بوادره. وفي معنى ذلك ما كتب به أبو مسلم للمنصور حين أمره بالقدوم أمّا بعد فإنّه ممّا حفظناه من وصايا الفرس أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدّهماء سنّة الله في عباده والله سبحانه وتعالى أعلم.


[١] الفرجة: ج فرج: كل منفرج بين شيئين وهنا بمعنى خلل.

<<  <  ج: ص:  >  >>