كان عمرانها ليس بمناسب لذلك لهذا العهد. إلّا أنّ الصّبغة إذا استحكمت فقليلا ما تحول إلّا بزوال محلّها. وكذا نجد بالقيروان ومرّاكش وقلعة ابن حمّاد أثرا باقيا من ذلك وإن كانت هذه كلّها اليوم خرابا أو في حكم الخراب. ولا يتفطّن لها إلّا البصير من النّاس فيجد من هذه الصّنائع آثارا تدلّه على ما كان بها كأثر الخطّ الممحوّ في الكتاب «وَالله الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» .
[الفصل التاسع عشر في أن الصنائع إنما تستجاد وتكثر إذا كثر طالبها]
والسّبب في ذلك ظاهر وهو أنّ الإنسان لا يسمح بعمله أن يقع مجّانا لأنّه كسبه ومنه معاشه. إذ لا فائدة له في جميع عمره في شيء ممّا سواه فلا يصرفه إلّا فيما له قيمة في مصره ليعود عليه بالنّفع. وإن كانت الصّناعة مطلوبة وتوجّه إليها النّفاق كانت حينئذ الصّناعة بمثابة السّلعة الّتي تنفق سوقها وتجلب للبيع، فتجتهد النّاس في المدينة لتعلّم تلك الصّناعة ليكون منها معاشهم. وإذا لم تكن الصّناعة مطلوبة لم تنفق سوقها ولا يوجّه قصد إلى تعلّمها، فاختصّت بالتّرك وفقدت للإهمال. ولهذا يقال عن عليّ رضي الله عنه:«قيمة كلّ امرئ ما يحسن» بمعنى أنّ صناعته هي قيمته أي قيمة عمله الّذي هو معاشه. وأيضا فهنا سرّ آخر وهو أنّ الصّنائع وإجادتها إنّما تطلبها الدّولة فهي الّتي تنفق سوقها وتوجّه الطّالبات إليها. وما لم تطلبه الدّولة وإنّما يطلبها غيرها من أهل المصر فليس على نسبتها لأنّ الدّولة هي السّوق الأعظم وفيها نفاق كلّ شيء والقليل والكثير فيها على نسبة واحدة. فما نفق منها كان أكثريّا ضرورة. والسّوقة وإن طلبوا الصّناعة فليس طلبهم بعامّ ولا سوقهم بنافقة. والله سبحانه وتعالى قادر على ما يشاء