للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قانعا بما بنى أوّلوه سلما لأنظاره من الملوك وأقتاله مقلّدا للماضين من سلفه فيتّبع آثارهم حذو النّعل بالنّعل ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء ويرى أنّ في الخروج عن تقليدهم فساد أمره وأنّهم أبصر بما بنوا من مجده. الطّور الخامس طور الإسراف والتّبذير ويكون صاحب الدّولة في هذا الطّور متلفا لما جمع أوّلوه في سبيل الشّهوات والملاذّ والكرم على بطانته وفي مجالسه واصطناع أخدان السّوء وخضراء الدّمن [١] وتقليدهم عظيمات الأمور الّتي لا يستقلّون بحملها ولا يعرفون ما يأتون ويذرون منها مستفسدا لكبار الأولياء من قومه وصنائع سلفه حتّى يضطغنوا عليه ويتخاذلوا عن نصرته مضيّعا من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواته وحجب عنهم وجه مباشرته وتفقّده فيكون مخرّبا لما كان سلفه يؤسّسون وهادما لما كانوا يبنون وفي هذا الطّور تحصل في الدّولة طبيعة الهرم ويستولي عليها المزمن الّذي لا تكاد تخلص منه ولا يكون لها معه برء إلى أن تنقرض كما نبيّنه في الأحوال الّتي نسردها والله خير الوارثين.

[الفصل الثامن عشر في أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها]

والسّبب في ذلك أنّ الآثار إنّما تحدث عن القوّة الّتي بها كانت أوّلا وعلى قدرها يكون الأثر فمن ذلك مباني الدّولة وهياكلها العظيمة فإنّما تكون على نسبة قوّة الدّولة في أصلها لأنّها لا تتمّ إلّا بكثرة الفعلة واجتماع الأيدي على العمل بالتّعاون فيه فإذا كانت الدّولة عظيمة فسيحة الجوانب كثيرة الممالك والرّعايا كان الفعلة كثيرين جدّا وحشروا من آفاق الدّولة وأقطارها فتمّ العمل على أعظم هياكله ألا ترى إلى مصانع قوم عاد وثمود وما قصّه القرآن عنهما.


[١] (بمعنى الجميل في مظهرة، الوضيع في مخبره وفي الحديث: «وإياكم وخضراء الدمن» قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: «المرأة الحسناء في المنبت السوء» ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>