للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الفصل الثالث والثلاثون في أن الصنائع تكسب صاحبها عقلا وخصوصا الكتابة والحساب]

قد ذكرنا في الكتاب أنّ النّفس النّاطقة للإنسان إنّما توجد فيه بالقوّة. وأنّ خروجها من القوّة إلى الفعل إنّما هو بتجدّد العلوم والإدراكات عن المحسوسات أوّلا، ثمّ ما يكتسب بعدها بالقوّة النّظريّة إلى أن يصير إدراكا بالفعل وعقلا محضا فتكون ذاتا روحانيّة ويستكمل حينئذ وجودها. فوجب لذلك أن يكون كلّ نوع من العلم والنّظر يفيدها عقلا فريدا [١] والصّنائع أبدا يحصل عنها وعن ملكتها قانون علميّ مستفاد من تلك الملكة. فلهذا كانت الحنكة في التّجربة تفيد عقلا والحضارة الكاملة تفيد عقلا لأنّها مجتمعة من صنائع في شأن تدبير المنزل ومعاشرة أبناء الجنس وتحصيل الآداب في مخالطتهم ثمّ القيام بأمور الدّين واعتبار آدابها وشرائطها. وهذه كلّها قوانين تنتظم علوما فيحصل منها زيادة عقل. والكتابة من بين الصّنائع أكثر إفادة لذلك لأنّها تشتمل على العلوم والأنظار بخلاف الصّنائع. وبيانه أنّ في الكتابة انتقالا من الحروف الخطّيّة إلى الكلمات اللّفظيّة في الخيال ومن الكلمات اللّفظيّة في الخيال إلى المعاني الّتي في النّفس فهو ينتقل أبدا من دليل إلى دليل، ما دام ملتبسا بالكتابة وتتعوّد النّفس ذلك دائما. فيحصل لها ملكة الانتقال من الأدلّة إلى المدلولات وهو معنى النّظر العقليّ الّذي يكسب [٢] العلوم المجهولة فيكسب بذلك ملكة من التّعقّل تكون زيادة عقل ويحصل به قوّة [٣] فطنة وكيس في الأمور لما تعوّدوه من ذلك الانتقال. ولذلك قال كسرى في كتابه لمّا رآهم بتلك الفطنة والكيس فقال:

«ديوانه أي شياطين وجنون. قالوا: وذلك أصل اشتقاق الدّيوان لأهل الكتابة


[١] وفي النسخة الباريسية: عقلا مزيدا.
[٢] وفي نسخة أخرى: يكتب به.
[٣] وفي نسخة أخرى: مزيد.

<<  <  ج: ص:  >  >>