وأشدّ رفاهية كما قدّمناه قبل ومن هذا الباب تقول العامّة في البلاد إذا تناقص عمرانها إنّها قد ذهب رزقها حتّى أنّ الأنهار والعيون ينقطع جريها في القفر لما أنّ فور العيون إنّما يكون بالأنباط والامتراء الّذي هو بالعمل الإنسانيّ كالحال في ضروع الأنعام فما لم يكن إنباط ولا امتراء نضبت وغارت بالجملة كما يجفّ الضّرع إذا ترك امتراؤه. وأنظره في البلاد الّتي تعهد فيها العيون لأيّام عمرانها ثمّ يأتي عليها الخراب كيف تغور مياهها جملة كأنّها لم تكن «وَالله مُقَدِّرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَار» .
[الفصل الثاني في وجوه المعاش وأصنافه ومذاهبه]
اعلم أنّ المعاش هو عبارة عن ابتغاء الرّزق والسّعي في تحصيله وهو مغفل من العيش. كأنّه لمّا كان العيش الّذي هو الحياة لا يحصل إلّا بهذه جعلت موضعا له على طريق المبالغة ثمّ إنّ تحصيل الرّزق وكسبه: إمّا أن يكون بأخذه من يد الغير وانتزاعه بالاقتدار عليه على قانون متعارف ويسمّى مغرما وجباية وإمّا أن يكون من الحيوان الوحشيّ بافتراسه [١] وأخذه برميه من البرّ أو البحر ويسمّى اصطيادا وإمّا أن يكون من الحيوان الدّاجن باستخراج فضوله المنصرفة بين النّاس في منافعهم كاللّبن من الأنعام والحرير من دوده والعسل من نحلة أو يكون من النّبات في الزّرع والشّجر بالقيام عليه وإعداده لاستخراج ثمرته ويسمّى هذا كلّه فلحا وإمّا أن يكون الكسب من الأعمال الإنسانيّة إمّا في موادّ معيّنة وتسمّى الصّنائع من كتابة وتجارة وخياطة وحياكة وفروسيّة وأمثال ذلك أو في موادّ غير معيّنة وهي جميع الامتهانات والتّصرّفات وإمّا أن يكون الكسب من البضائع