وأجري الخلاف بين المتمسّكين بها والآخذين بأحكامها مجرى الخلاف في النّصوص الشّرعيّة والأصول الفقهيّة. وجرت بينهم المناظرات في تصحيح كلّ منهم مذهب إمامه تجري على أصول صحيحة وطرائق قويمة يحتجّ بها كلّ على صحّة مذهبه الّذي قلّده وتمسّك به وأجريت في مسائل الشّريعة كلّها وفي كلّ باب من أبواب الفقه فتارة يكون الخلاف بين الشّافعيّ ومالك وأبو حنيفة يوافق أحدهما وتارة بين مالك وأبي حنيفة والشّافعيّ يوافق أحدهما وتارة بين الشّافعيّ وأبي حنيفة ومالك يوافق أحدهما وكان في هذه المناظرات بيان مآخذ هؤلاء الأئمّة ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم. كان هذا الصّنف من العلم يسمّى بالخلافيّات. ولا بدّ لصاحبه من معرفة القواعد الّتي يتوصّل بها إلى استنباط الأحكام كما يحتاج إليها المجتهد إلّا أنّ المجتهد يحتاج إليها للاستنباط وصاحب الخلافيّات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلّته. وهو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمّة وأدلّتهم ومران [١] المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الاستدلال عليه.
وتآليف الحنفيّة والشّافعيّة فيه أكثر من تآليف المالكيّة لأنّ القياس عند الحنفيّة أصل للكثير من فروع مذهبهم كما عرفت فهم لذلك أهل النّظر والبحث. وأمّا المالكيّة فالأثر أكثر معتمدهم وليسوا بأهل نظر وأيضا فأكثرهم أهل الغرب وهم بادية غفل من الصّنائع إلّا في الأقلّ. وللغزاليّ رحمه الله تعالى فيه كتاب المآخذ ولأبي بكر العربيّ من المالكيّة كتاب التّلخيص جلبه من المشرق. ولأبي زيد الدّبّوسيّ كتاب التّعليقة ولابن القصّار من شيوخ المالكيّة عيون الأدلّة وقد جمع ابن السّاعاتيّ في مختصره في أصول الفقه جميع ما يبنى عليها من الفقه الخلافيّ مدرجا في كلّ مسألة ما يبنى عليها من الخلافيّات.
[وأما الجدال]
وهو معرفة آداب المناظرة الّتي تجري بين أهل المذاهب