ومتقدّم عليه أنّا إذا فتّشنا أهل مصر من الأمصار وجدنا أوّليّة أكثرهم من أهل البدو الّذين بناحية ذلك المصر وعدلوا إلى الدّعة والتّرف الّذي في الحضر وذلك يدلّ على أنّ أحوال الحضارة ناشئة عن أحوال البداوة وأنّها أصل لها فتفهّمه. ثمّ إنّ كلّ واحد من البدو والحضر متفاوت الأحوال من جنسه فربّ حيّ أعظم من حيّ وقبيلة أعظم من قبيلة ومصر أوسع من مصر ومدينة أكثر عمرانا من مدينة فقد تبيّن أنّ وجود البدو متقدّم على وجود المدن والأمصار وأصل لها بما أنّ وجود المدن والأمصار من عوائد التّرف والدّعة الّتي هي متأخرة عن عوائد الضّرورة المعاشيّة والله أعلم.
[الفصل الرابع في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر]
وسببه أنّ النّفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شرّ قال صلّى الله عليه وسلّم «كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر ويصعب عليها اكتسابه فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير وحصلت لها ملكته بعد عن الشّرّ وصعب عليه طريقه وكذا صاحب الشّرّ إذا سبقت إليه أيضا عوائده وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذّ وعوائد التّرف والإقبال على الدّنيا والعكوف على شهواتهم منها وقد تلوّنت أنفسهم بكثير من مذمومات الخلق والشّرّ وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك حتّى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم لا يصدّهم عنه وازع الحشمة لما أخذتهم به عوائد السّوء في التّظاهر بالفواحش قولا وعملا وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدّنيا مثلهم إلّا أنّه في المقدار الضّروريّ لا في