للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يبق إلّا فضل السّكنى بالمدينة وهو هجرة فقول الحجّاج لسلمة حين سكن البادية ارتددت على عقبيك تعرّبت نعى عليه في ترك السّكنى بالمدينة بالإشارة إلى الدّعاء المأثور الّذي قدمناه وهو قوله لا تردّهم على أعقابهم وقوله تعرّبت إشارة إلى أنّه صار من الأعراب الّذين لا يهاجرون وأجاب سلمة بإنكار ما ألزمه من الأمرين وأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أذن له في البدو ويكون ذلك خاصّا به كشهادة خزيمة [١] وعناق أبي بردة [٢] أو يكون الحجّاج إنّما نعى عليه ترك السّكنى بالمدينة فقط لعلمه بسقوط الهجرة بعد الوفاة وأجابه سلمة بأنّ اغتنامه لإذن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أولى وأفضل فما آثره به واختصّه إلّا لمعنى علمه فيه وعلى كلّ تقدير فليس دليلا على مذمّة البدو الّذي عبّر عنه بالتّعرّب لأنّ مشروعيّة الهجرة إنّما كانت كما علمت لمظاهرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحراسته لا لمذمّة البدو فليس في النّعي على ترك هذا الواجب دليل على مذمّة التّعرّب والله سبحانه أعلم وبه التّوفيق.

[الفصل الخامس في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر]

والسّبب في ذلك أنّ أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الراحة والدّعة وانغمسوا في النّعيم والتّرف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الّذي يسوسهم والحامية الّتي تولّت حراستهم واستناموا إلى الأسوار الّتي تحوطهم والحرز الّذي يحول دونهم فلا تهيجهم هيعة [٣] ولا ينفر لهم صيد فهم غارّون [٤] آمنون، قد ألقوا السّلاح وتوالت على ذلك منهم الأجيال وتنزّلوا منزلة


[١] هو خذيمة بن ثابت الأنصاري من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد جعل شهادته بشهادة رجلين.
[٢] العناق: أم الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها السنة. وقد أجاز النبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي بردة ابن نيار خاصة أن يضحّي بها قصد ابن خلدون فهو استثناء الخصوصيات من عموم الأحكام، لما ورد بشأنها في أحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
[٣] هيعة: الصوت المرعب والمخيف.
[٤] غارّون: مطمئنون.

<<  <  ج: ص:  >  >>