للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النّصرانيّة، كيف استكثرت فيهم الصّنائع واستجلبها الأمم من عندهم. وعجم المغرب من البربر مثل العرب في ذلك لرسوخهم في البداوة منذ أحقاب من السنين. ويشهد لك بذلك قلّة الأمصار بقطرهم كما قدّمناه. فالصّنائع بالمغرب لذلك قليلة وغير مستحكمة الأماكن [١] من صناعة الصّوف من نسجه، والجلد في خرزه ودبغه. فإنّهم لمّا استحضروا بلغوا فيها المبالغ لعموم البلوى بها وكون هذين أغلب السّلع في قطرهم، لما هم عليه من حال البداوة. وأمّا المشرق فقد رسخت الصّنائع فيه منذ ملك الأمم الأقدمين من الفرس والنّبط والقبط وبني إسرائيل ويونان والرّوم أحقابا متطاولة، فرسخت فيهم أحوال الحضارة، ومن جملتها الصّنائع كما قدّمناه، فلم يمح رسمها. وأمّا اليمن والبحرين وعمان والجزيرة وإن ملكه العرب إلّا أنّهم تداولوا ملكه آلافا من السّنين في أمم كثيرين [٢] منهم. واختطّوا أمصاره ومدنه وبلغوا الغاية من الحضارة والتّرف مثل عاد وثمود والعمالقة وحمير من بعدهم. والتّبابعة والأذواء فطال أمد الملك والحضارة واستحكمت صبغتها وتوفّرت الصّنائع ورسخت، فلم تبل ببلى الدّولة كما قدّمناه.

فبقيت مستجدّة حتّى الآن. واختصّت بذلك للوطن، كصناعة الوشي والعصب وما يستجاد من حوك الثّياب والحرير فيها والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

[الفصل الثاني والعشرون فيمن حصلت له ملكة في صناعة فقل أن يجيد بعد في ملكة أخرى]

ومثال ذلك الخيّاط إذا أجاد ملكة الخياطة وأحكمها ورسخت في نفسه فلا يجيد من بعدها ملكة النّجارة أو البناء إلّا أن تكون الأولى لم تستحكم بعد ولم ترسخ صبغتها. والسّبب في ذلك أنّ الملكات صفات للنّفس وألوان فلا تزدحم


[١] وفي نسخة أخرى: إلّا ما كان.
[٢] وفي نسخة أخرى: في أمم كثيرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>