للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وانها مؤذنة بفساده]

قد بيّنّا لك فيما سلف أنّ الملك والدّولة غاية للعصبيّة وأنّ الحضارة غاية للبداوة وأنّ العمران كلّه من بداوة وحضارة وملك وسوقة [١] له عمر محسوس كما أنّ للشّخص الواحد من أشخاص المكوّنات عمرا محسوسا وتبيّن في المعقول والمنقول أنّ الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموّها وأنّه إذا بلغ سنّ الأربعين وقفت الطّبيعة عن أثر النشوء والنّموّ برهة ثمّ تأخذ بعد ذلك في الانحطاط. فلتعلم أنّ الحضارة في العمران أيضا كذلك لأنّه غاية لا مزيد وراءها وذلك أنّ التّرف والنّعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتّخلّق بعوائدها والحضارة كما علمت هي التّفنّن في التّرف واستجادة أحواله والكلف بالصّنائع الّتي تؤنّق من أصنافه وسائر فنونه من الصّنائع المهيّئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية ولسائر أحوال المنزل. وللتّأنّق في كلّ واحد من هذه صنائع كثيرة لا يحتاج إليها عند البداوة وعدم التّأنّق فيها.

وإذا بلغ التّأنّق في هذه الأحوال المنزليّة الغاية تبعه طاعة الشّهوات فتتلوّن النّفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها أمّا دينها فلاستحكام صبغة العوائد الّتي يعسر نزعها وأمّا دنياها فلكثرة الحاجات والمؤنات الّتي تطالب بها العوائد ويعجز وينكّب [٢] عن الوفاء بها. وبيانه أنّ المصر بالتّفنّن في الحضارة تعظم نفقات أهله والحضارة تتفاوت بتفاوت العمران فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل. وقد كنّا قدّمنا أنّ المصر الكثير العمران يختصّ بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجته. ثمّ تزيدها المكوس غلاء لأنّ الحضارة إنّما تكون عند انتهاء الدّولة في استفحالها وهو زمن وضع المكوس في الدّول لكثرة


[١] الرعية.
[٢] وفي نسخة اخرى: الكسب.

<<  <  ج: ص:  >  >>