للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمعازف والمزامير وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحّنوا عليها أشعارهم. وظهر بالمدينة نشيط الفارسيّ وطويس وسائب بن جابر [١] مولى عبيد الله بن جعفر فسمعوا شعر العرب ولحّنوه وأجادوا فيه وطار لهم ذكر. ثمّ أخذ عنهم معبد وطبقته وابن شريح [٢] وأنظاره. وما زالت صناعة الغناء تتدرّج إلى أن كملت أيّام بني العبّاس عند إبراهيم بن المهديّ وإبراهيم الموصليّ وابنه إسحاق وابنه حمّاد.

وكان من ذلك في دولتهم ببغداد ما تبعه الحديث بعده به وبمجالسه لهذا العهد وأمعنوا في اللهو واللّعب واتّخذت آلات الرّقص في الملبس والقضبان والأشعار الّتي يترنّم بها عليه. وجعل صنفا وحده واتّخذت آلات أخرى للرّقص تسمّى بالكرج [٣] وهي تماثيل خيل مسرجة من الخشب معلّقة بأطراف أقبية يلبسها النّسوان ويحاكين بها امتطاء الخيل فيكرّون ويفرّون ويتثاقفون [٤] وأمثال ذلك من اللّعب المعدّ للولائم والأعراس وأيّام الأعياد ومجالس الفراغ واللهو. وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتشر منها إلى غيرها. وكان للموصليّين غلام اسمه زرياب أخذ عنهم الغناء فأجاد فصرفوه إلى المغرب غيرة منه فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرّحمن الدّاخل أمير الأندلس. فبالغ في تكرمته وركب للقائه وأسنى له الجوائز والإقطاعات والجرايات وأحلّه من دولته وندمائه بمكان.

فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطّوائف. وطما منها بأشبيليّة بحر زاخر وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقيّة والمغرب. وانقسم على أمصارها وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها. وهذه الصّناعة آخر ما يحصل في العمران من الصّنائع لأنّها كماليّة في غير وظيفة من الوظائف إلّا وظيفة الفراغ والفرح. وهو أيضا أوّل ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه. والله أعلم.


[١] وفي نسخة أخرى: سائب وحائر. وفي النسخة الباريسية خاثر مولى عبد الله بن جعفر.
[٢] وفي نسخة أخرى: ابن سريج.
[٣] وفي نسخة أخرى: الكرح.
[٤] أي يلعبون بالسلاح.

<<  <  ج: ص:  >  >>