به فامتاز من بين كلامهم بخطّ من الشّرف ليس لغيره لأجل اختصاصه. بهذا التّناسب. وجعلوه ديوانا لأخبارهم وحكمهم وشرفهم ومحكا لقرائحهم في إصابة المعاني وإجادة الأساليب. واستمرّوا على ذلك. وهذا التّناسب الّذي من أجل الأجزاء والمتحرّك والسّاكن من الحروف قطرة من بحر من تناسب الأصوات كما هو معروف في كتب الموسيقى. إلّا أنّهم لم يشعروا بما سواه لأنّهم حينئذ لم ينتحلوا علما ولا عرفوا صناعة. وكانت البداوة أغلب نحلهم. ثمّ تغنّى الحداة منهم في حداء إبلهم والفتيان في فضاء خلواتهم فرجّعوا الأصوات وترنّموا. وكانوا يسمّون التّرنّم إذا كان بالشّعر غناء وإذا كان بالتّهليل أو نوع القراءة تغييرا بالغين المعجمة والباء الموحّدة. وعلّلها أبو إسحاق الزّجّاج بأنّها تذكر بالغابر وهو الباقي أي بأحوال الآخرة. وربّما ناسبوا في غنائهم بين النّغمات مناسبة بسيطة كما ذكره ابن رشيق آخر كتاب العمدة وغيره. وكانوا يسمّونه السّناد. وكان أكثر ما يكون منهم في الخفيف الّذي يرقص عليه ويمشى بالدّفّ والمزمار فيضطرب ويستخفّ الحلوم. وكانوا يسمّون هذا الهزج وهذا البسيط كلّه من التّلاحين هو من أوائلها ولا يبعد أن تتفطّن له الطّباع من غير تعليم شأن البسائط كلّها من الصّنائع. ولم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليّتهم. فلمّا جاء الإسلام واستولوا على ممالك الدّنيا وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال الّتي عرفت لهم مع غضارة الدّين وشدّته في ترك أحوال الفراغ وما ليس بنافع في دين ولا معاش فهجروا ذلك شيئا ما. ولم يكن الملذوذ عندهم إلّا ترجيع القراءة [١] والتّرنّم بالشّعر الّذي هو ديدنهم ومذهبهم.
فلمّا جاءهم التّرف وغلب عليهم الرّفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نضارة العيش ورقّة الحاشية واستحلاء الفراغ. وافترق المغنّون من الفرس والرّوم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب وغنّوا جميعا بالعيدان والطّنابير