فلم يروا على الأسوار أحدا إلا رجلا يشير إليهم فقال: ما بقي بالمدينة أحد وقد صاروا إلى المدينة القصوى التي فيها الإيوان، فدخل سعد والمسلمون وأرادوا العبور إليهم فوجدوهم جمعوا المعابر عندهم، فأقام أياما من صبر ودلّه بعض العلوم على مخاضة في دجلة فتردّد، فقال له أقدم فلا تأتي عليك ثلاثة إلا ويزدجرد قد ذهب بكل شيء فيها. فعزم سعد على العبور وخطب الناس وندبهم إلى العبور ورغبهم، وندب من يجزى أن لا يجيء الفراض حتى يجيز إليه الناس، فانتدب عاصم بن عمر في ستمائة واقتحموا دجلة فلقيهم أمثالهم من الفرس عند الفراض وشدوا عليهم فانهزموا وقتل أكثرهم وعوروا من الطعن في العيون، وعاينهم المسلمون على الفراض، فاقتحموا في أثرهم يصيحون نستعين باللَّه ونتوكل عليه حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة الا باللَّه العلي العظيم. وساروا في دجلة وقد طبقوا ما بين عدوتيها وخيلهم سابحة بهم وهم يهيمنون تارة ويتحادثون أخرى حتى أجازوا البحر ولم يفقدوا شيئا، إلا قدحا لبعضهم غلبت صاحبه عليه وجرية الماء وألقته الريح إلى الشاطئ.
ورأى الفرس عساكر المسلمين قد أجازوا البحر فخرجوا هاربين إلى حلوان، وكان يزدجرد قدم إليها قبل ذلك عياله، ورفعوا ما قدروا عليه من عرض المتاع وخفيفة ومن بيت المال والنساء والذراري، وتركوا بالمدائن من الثياب والأمتعة والآنية والألطاف ما لا تحصر [١] قيمته، وكان في بيت المال ثلاثة آلاف ألف ألف ألف مكرّرة ثلاث مرّات تكون جملتها ثلاث آلاف قنطار من الدنانير، وكان رستم عند مسيره إلى القادسية حمل نصفها لنفقات العساكر وأبقى النصف. واقتحمت العساكر المدينة تجول في سكسكها لا يلقون بها أحدا، وأرز سائر الناس إلى القصر الأبيض حتى توثقوا لأنفسهم على الجزية.
ونزل سعد القصر الأبيض واتخذ الإيوان به مصلّى ولم يغير ما فيه من التماثيل، ولما دخله قرأ «كَمْ تَرَكُوا من جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ٤٤: ٢٥» الآية، وصلى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات لا يفصل بينهن وأتم الصلاة بنية الإقامة. وسرح زهرة بن حيوة في آثار الأعاجم إلى النهروان وقراها من كل جهة، وجعل على الأخماس عمرو بن عمرو بن مقرّن، وعلى القسم سلمان بن ربيعة الباهلي وجمع ما كان في القصر والإيوان والدور وما نهبه أهل المدائن عند الهزيمة، ووجدوا حلية كسرى ثيابه وخرزاته وتاجه ودرعه التي كان