البليغ. قال يوما لهشام يعزّيه في مسلمة أخيه: إنّ عقبى من بقي لحوق من مضى، وقد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن رمى، واختلّ الثغر فهوى. وعلى أثر من سلف، يمضي من خلف، فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى. فأعرض هشام وسكت القوم.
وامّا حكاية مقتله فإنه لما تعرّض له بنو عمه ونالوا من عرضه أخذ في مكافأتهم.
فضرب سليمان بن عمه هشام مائة سوط وحلقه وغرّبه إلى معان من أرض الشام، فحبسه إلى آخر دولته وحبس أخاه يزيد بن هشام، وفرّق بين ابن الوليد وبين امرأته، وحبس عدّة من ولد الوليد، فرموه بالفسق والكفر واستباحة نساء أبيه.
وخوّفوا بني أمية منه بأنه اتخذ ميتة جامعة لهم [١] وطعنوا عليه في تولية ابنيه الحكم وعثمان العهد مع صغرهما. وكان أشدّهم عليه في ذلك يزيد بن الوليد لأنه كان يتنسّك فكان الناس إلى قوله أميل. ثم فسدت اليمامة عليه بما كان منه لخالد القسري. وقالوا: إنما حبسه ونكبه لامتناعه من بيعة ولديه. ثم فسدت عليه قضاعة وكان اليمن وقضاعة أكثر جند الشام. واستعظموا منه ما كان من بيعة خالد ليوسف ابن عمر، وصنعوا على لسان الوليد قصيدة معيرة اليمنيّة بشأن خالد. فازداد واختفى. وأتوا إلى يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأرادوه على البيعة. وشاور عمر بن زيد الحكمي فقال: شاور أخاك العبّاس وإلا فأظهر أنه قد بايعك، فإنّ الناس له أطوع. فشاور العبّاس فنهاه عن ذلك فلم ينته، ودعا الناس سرّا وكان بالبادية. وبلغ الخبر مروان بأرمينية فكتب إلى سعيد بن عبد الملك يعظّم عليه الأمر ويحذره الفتنة ويذكر له أمر يزيد، فأعظم ذلك سعيد وبعث بالكتاب إلى العبّاس فتهدّد أخاه يزيد فكتمه فصدّقه. ولما اجتمع ليزيد أمره أقبل إلى دمشق لأربع ليال متنكرا، معه سبعة نفر على الحمر. ودخل دمشق ليلا وقد بايع له أكثر أهلها سرّا وأهل المزّة.
وكان على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجّاج فاستوياها فنزل قطنا، واستخلف عليها ابنه محمدا وعلى شرطته أبو العاج كثيّر بن عبد الله السلميّ. ونمى الخبر إليهما فكذّباه وتواعد يزيد مع أصحابه بعد المغرب بباب الفراديس. ثم دخلوا المسجد فصلوا العتمة، ولما قضوا الصلاة جاء حرس المسجد لإخراجهم فوثبوا عليهم، ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد فجاء به إلى المسجد في زهاء مائتين وخمسين، وطرقوا باب المقصورة فأدخلهم الخادم فأخذوا أبا العاج وهو سكران
[١] وفي الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢٨٠: وقد اتخذ مائة جامعة لبني أمية.