ولا تشطط فإنّ ذلك أقطع للشعث وأحسم للعدوّ وأنجع في الدواء، واعف عن الفيء فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك وافتتح بصلة الرحم وبرّ القرابة وإياك والأثرة والتبديد لأموال الرعيّة واشحن الثغور واضبط الأطراف وأمّن السبيل وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم وارفع المكاره عنهم وأعدّ الأموال واخزنها، وإياك والتبديد فإنّ النوائب غير مأمونة وهي من شيم الزمان. وأعدّ الأكراع والرجال والجند ما استطعت. وإياك وتأخير عمل اليوم لغد فتتداول الأمور وتضيع، وخذ في أحكام الأمور والنازلات في أوقاتها أوّلا أوّلا، واجتهد وشمّر فيها وأعدّ رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل. وباشر الأمور بنفسك ولا تضجر ولا تكسل، واستعمل حسن الظنّ وأسئ الظنّ بعملك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ وتفقّد من يبيت على بابك وسهّل إذنك للناس وانظر في أمر النزاع إليك وكل بهم عينا غير نائمة ونفسا غير ساهية. ولا تنم فإنّ أباك لم ينم منذ ولي الخلافة ولا دخل عينه الغمض إلا وقلبه مستيقظ. هذه وصيتي إليك والله خليفتي عليك. ثم ودّعه وسار إلى الكوفة فأحرم منها قارنا، وساق الهدي وأشعره وقلّده لأيام خلت من ذي القعدة. ولما سار منازل عرض له وجعه الّذي مات به. ثم اشتدّ فجعل يقول للربيع وكان عديله بادر بي إلى حرم ربّي هاربا من ذنوبي فلما وصل بئر ميمون مات سحر السادس من ذي الحجة لم يحضر إلا خدمه والربيع مولاه. فكتموا الأمر ثم غدا أهل بيته على عادتهم، فدعا عيسى بن عليّ العم ثم عيسى بن موسى بن محمد ولي العهد، ثم الأكابر وذوي الأنساب، ثم عامّتهم، فبايعهم الربيع للمهدي ثم بايع القوّاد وعامّة الناس. وسار العبّاس بن محمد ومحمد بن سليمان إلى مكة فبايعا الناس للمهدي بين الركن والمقام وجهزوه إلى قبره وصلى عليه عيسى بن موسى وقيل إبراهيم ابن يحيى، ودفن في مقبرة المعلاة وذلك لاثنتين وعشرين سنة من خلافته. وذكر علي بن محمد النوفليّ عن أبيه وهو من أهل البصرة وكان يختلف إلى المنصور تلك الأيام قال: جئت من مكة صبيحة موته إلى العسكر، فإذا موسى بن المهدي عند عمود السرادق والقاسم بن المنصور في ناحية فعلمت أنه قد مات. ثم أقبل الحسن بن زيد العلويّ والناس حتى ملئوا السرادق وسمعنا همس البكاء. ثم خرج أبو العنبر الخادم مشقوق الأقبية وعلى رأسه التراب وهو يستغيث، وقام القاسم فشق ثيابه. ثم خرج الربيع وفي يده قرطاس فقرأه على الناس وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله