من توزيعهم حصصا على الممالك والثّغور الّتي تصير إليهم ويستولون عليها لحمايتها من العدوّ وإمضاء أحكام الدّولة فيها من جباية وردع وغير ذلك فإذا توزّعت العصائب كلّها على الثّغور والممالك فلا بدّ من نفاد عددها وقد بلغت الممالك حينئذ إلى حدّ يكون ثغرا للدّولة وتخما لوطنها ونطاقا لمركز ملكها فإن تكفّلت الدّولة بعد ذلك زيادة على ما بيدها بقي دون حامية وكان موضعا لانتهاز الفرصة من العدوّ والمجاور ويعود وبال ذلك على الدّولة بما يكون فيه من التّجاسر وخرق سياج الهيبة وما كانت العصابة موفورة ولم ينفد عددها في توزيع الحصص على الثّغور والنّواحي بقي في الدّولة قوّة على تناول ما وراء الغاية حتّى ينفسح نطاقها إلى غايته والعلّة الطّبيعيّة في ذلك هي قوّة العصبيّة من سائر القوى الطّبيعيّة وكلّ قوّة يصدر عنها فعل من الأفعال فشأنها ذلك في فعلها والدّولة في مركزها أشدّ ممّا يكون في الطّرف والنّطاق وإذا انتهت إلى النّطاق الّذي هو الغاية عجزت وأقصرت عمّا وراءه شأن الأشعّة والأنوار إذا انبعثت من المراكز والدّوائر المنفسحة على سطح الماء من النّقر عليه ثمّ إذا أدركها الهرم والضّعف فإنّما تأخذ في التّناقص من جهة الأطراف ولا يزال المركز محفوظا إلى أن يتأذّن الله بانقراض الأمر جملة فحينئذ يكون انقراض المركز وإذا غلب على الدّولة من مركزها فلا ينفعها بقاء الأطراف والنّطاق بل تضمحلّ لوقتها فإنّ المركز كالقلب الّذي تنبعث منه الرّوح فإذا غلب على القلب وملك انهزم جميع الأطراف وانظر هذا في الدّولة الفارسيّة كان مركزها المدائن فلمّا غلب المسلمون على المدائن انقرض أمر فارس أجمع ولم ينفع يزدجرد ما بقي بيده من أطراف ممالكه وبالعكس من ذلك الدّولة الرّوميّة بالشّام لمّا كان مركزها القسطنطينيّة وغلبهم المسلمون بالشّام تحيّزوا إلى مركزهم بالقسطنطينيّة ولم يضرّهم انتزاع الشّام من أيديهم فلم يزل ملكهم متّصلا بها إلى أن تأذّن الله بانقراضه وانظر أيضا شأن العرب أوّل الإسلام لمّا كانت عصائبهم موفورة كيف غلبوا على ما جاورهم من الشّام والعراق