ويؤيّده ما ذكرناه في حكمة التّيه الّذي وقع في بني إسرائيل وأنّ المقصود بالأربعين فيه فناء الجيل الأحياء ونشأة جيل آخر لم يعهدوا الذّلّ ولا عرفوه فدلّ على اعتبار الأربعين في عمر الجيل الّذي هو عمر الشّخص الواحد وإنّما قلنا إنّ عمر الدّولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال لأنّ الجيل الأوّل لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحّشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد فلا تزال بذلك سورة العصبيّة محفوظة فيهم فحدّهم مرهف وجانبهم مرهوب والنّاس لهم مغلوبون والجيل الثّاني تحوّل حالهم بالملك والتّرفّه من البداوة إلى الحضارة ومن الشّظف إلى التّرف والخصب ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به وكسل الباقين عن السّعي فيه ومن عزّ الاستطالة إلى ذلّ الاستكانة فتنكسر سورة العصبيّة بعض الشّيء وتؤنس منهم المهانة والخضوع ويبقى لهم الكثير من ذلك بما أدركوا الجيل الأوّل وباشروا أحوالهم وشاهدوا اعتزازهم وسعيهم إلى المجد ومراميهم في المدافعة والحماية فلا يسعهم ترك ذلك بالكليّة وإن ذهب منه ما ذهب ويكونون على رجاء من مراجعة الأحوال الّتي كانت للجيل الأوّل أو على ظنّ من وجودها فيهم وأمّا الجيل الثّالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن ويفقدون حلاوة العزّ والعصبيّة بما هم فيه من ملكة القهر ويبلغ فيهم التّرف غايته بما تبنّقوه [١] من النّعيم وغضارة العيش فيصيرون عيالا على الدّولة ومن جملة النّساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم وتسقط العصبيّة بالجملة وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة ويلبّسون على النّاس في الشّارة والزّيّ وركوب الخيل وحسن الثّقافة يموّهون بها وهم في الأكثر أجبن من النّسوان على ظهورها فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته فيحتاج صاحب الدّولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النّجدة ويستكثر بالموالي ويصطنع من يغني عن الدّولة بعض الغناء حتّى يتأذّن الله بانقراضها فتذهب الدّولة بما حملت فهذه كما تراه ثلاثة أجيال فيها يكون هرم الدّولة وتخلّفها ولهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرّابع
[١] في بعض النسخ تفنقوه: أي تنعموا به (قاموس) وتبنقوه: توصلوا إليه.