ويمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب والأنفة ومقتضى القوّة البشريّة في ذلك فيقع التّنازع المفضي إلى المقاتلة وهي تؤدّي إلى الهرج وسفك الدّماء وإذهاب النّفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النّوع وهو ممّا خصّه الباري سبحانه بالمحافظة فاستحال بقاؤهم فوضى دون حالم يزع بعضهم عن بعض واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم وهو بمقتضى الطّبيعة البشريّة الملك القاهر المتحكّم ولا بدّ في ذلك من العصبيّة لما قدّمناه من أنّ المطالبات كلّها والمدافعات لا تتمّ إلّا بالعصبيّة وهذا الملك كما تراه منصب شريف تتوجّه نحوه المطالبات ويحتاج إلى المدافعات.
ولا يتمّ شيء من ذلك إلّا بالعصبيّات كما مرّ والعصبيّات متفاوتة وكلّ عصبيّة فلها تحكّم وتغلّب على من يليها من قومها وعشيرها وليس الملك لكلّ عصبيّة وإنّما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرّعية ويجبي الأموال ويبعث البعوث ويحمي الثّغور ولا تكون فوق يده يد قاهرة وهذا معنى الملك وحقيقته في المشهور فمن قصّرت به عصبيّته عن بعضها مثل حماية الثّغور أو جباية الأموال أو بعث البعوث فهو ملك ناقص لم تتمّ حقيقته كما وقع لكثير من ملوك البربر في دولة الأغالبة بالقيروان ولملوك العجم صدر الدّولة العباسيّة.
ومن قصّرت به عصبيّته أيضا عن الاستعلاء على جميع العصبيّات، والضّرب على سائر الأيدي وكان فوقه حكم غيره فهو أيضا ملك ناقص لم تتمّ حقيقته وهؤلاء مثل أمراء النّواحي ورؤساء الجهات الّذين تجمعهم دولة واحدة وكثيرا ما يوجد هذا في الدّولة المتّسعة النّطاق أعني توجد ملوك على قومهم في النّواحي القاصية يدينون بطاعة الدّولة الّتي جمعتهم مثل صنهاجة مع العبيديّين وزناتة مع الأمويّين تارة والعبيديّين تارة أخرى ومثل ملوك العجم في دولة بني العبّاس ومثل ملوك الطّوائف من الفرس مع الإسكندر وقومه اليونانيّين وكثير من هؤلاء فاعتبره تجده والله القاهر فوق عباده