كلّها من سلطان أو قائد في القلب ويسمّون هذا التّرتيب التّعبئة وهو مذكور في أخبار فارس والرّوم والدّولتين وصدر الإسلام فيجعلون بين يدي الملك عسكرا منفردا بصفوفه متميزا بقائده ورايته وشعاره ويسمّونه المقدّمة ثمّ عسكرا آخر ناحية اليمين عن موقف الملك وعلى سمته يسمّونه الميمنة ثمّ عسكرا آخر من ناحية الشّمال كذلك يسمّونه الميسرة ثمّ عسكرا آخر من وراء العسكر يسمّونه السّاقة ويقف الملك وأصحابه في الوسط بين هذه الأربع ويسمّون موقفه القلب فإذا تمّ لهم هذا التّرتيب المحكم إمّا في مدى واحد للبصر أو على مسافة بعيدة أكثرها اليوم واليومان بين كلّ عسكرين منها أو كيفما أعطاه حال العساكر في القلّة والكثرة فحينئذ يكون الزّحف من بعد هذه التّعبئة وانظر ذلك في أخبار الفتوحات وأخبار الدّولتين بالمشرق وكيف كانت العساكر لعهد عبد الملك تتخلّف عن رحيله لبعد المدى في التّعبئة فاحتيج لمن يسوقها من خلفه وعيّن لذلك الحجّاج بن يوسف كما أشرنا إليه وكما هو معروف في أخباره وكان في الدّولة الأمويّة بالأندلس أيضا كثير منه وهو مجهول فيما لدينا لأنّا إنّما أدركنا دولا قليلة العساكر لا تنتهي في مجال الحرب إلى التناكر بل أكثر الجيوش من الطّائفتين معا يجمعهم لدينا حلّة [١] أو مدينة ويعرف كلّ واحد منهم قرنه ويناديه في حومة الحرب باسمه ولقبه فاستغنى عن تلك التّعبئة.
ومن مذاهب أهل الكرّ والفرّ في الحروب ضرب المصافّ وراء عسكرهم من الجمادات والحيوانات العجم فيتّخذونها ملجأ للخيّالة في كرّهم وفرّهم يطلبون به ثبات المقاتلة ليكون أدوم للحرب وأقرب إلى الغلب وقد يفعله أهل الزّحف أيضا ليزيدهم ثباتا وشدّة فقد كان الفرس وهم أهل الزّحف يتّخذون الفيلة في الحروب ويحمّلون عليها أبراجا من الخشب أمثال الصّروح مشحونة بالمقاتلة والسّلاح والرّايات ويصفّونها وراءهم في حومة الحرب كأنّها حصون فتقوى بذلك نفوسهم
[١] الحلة: ج حلل وحلال: كل ثوب جديد أو عموما الثوب الساتر لجميع البدن والحلّة: الزنبيل الكبير من القصب. والحلّة من الشيء جهته (المنجد) .