الواقع لهذا العهد وقد أبدينا سببه والله بكلّ شيء عليم. وبلغنا أنّ أمم التّرك لهذا العهد قتالهم مناضلة بالسّهام وأنّ تعبئة الحرب عندهم بالمصافّ وأنّهم يقسمون بثلاثة صفوف يضربون صفّا وراء صفّ ويترجّلون عن خيولهم ويفرّغون سهامهم بين أيديهم ثمّ يتناضلون جلوسا وكلّ صف ردء للّذي أمامه أن يكبسهم العدوّ إلى أن يتهيّأ النّصر لإحدى الطّائفتين على الأخرى وهي تعبئة محكمة غريبة. وكان من مذاهب الأوّل في حروبهم حفر الخنادق على معسكرهم عند ما يتقاربون للزّحف حذرا من معرّة البيات والهجوم على العسكر باللّيل لما في ظلمته ووحشته من مضاعفة الخوف فيلوذ الجيش بالفرار وتجد النّفوس في الظّلمة سترا من عاره فإذا تساووا في ذلك أرجف العسكر ووقعت الهزيمة فكانوا لذلك يحتفرون الخنادق على معسكرهم إذا نزلوا وضربوا أبنيتهم [١] ويديرون الحفائر نطاقا عليهم من جميع جهاتهم حرصا أن يخالطهم العدوّ بالبيات فيتخاذلوا. وكانت للدّول في أمثال هذا قوّة وعليه اقتدار باحتشاد الرّجال وجمع الأيدي عليه في كلّ منزل من منازلهم بما كانوا عليه من وفور العمران وضخامة الملك فلمّا خرب العمران وتبعه ضعف الدّول وقلّة الجنود وعدم الفعلة نسي هذا الشّأن جملة كأنّه لم يكن والله خير القادرين. وانظر وصيّة علي رضي الله عنه وتحريضه لأصحابه يوم صفّين تجد كثيرا من علم الحرب ولم يكن أحد أبصر بها منه قال في كلام له:«فسوّوا صفوفكم كالبنيان المرصوص وقدّموا الدّارع وأخّروا الحاسر وعضّوا على الأضراس فإنّه أنبى للسّيوف عن الهام والتووا على أطراف الرّماح فإنّه أصون للأسنّة وغضّوا الأبصار فإنّه أربط للجأش وأسكن للقلوب واخفتوا الأصوات فإنّه أطرد للفشل وأولى بالوقار وأقيموا راياتكم فلا تميلوها ولا تجعلوها إلّا بأيدي شجعانكم واستعينوا بالصّدق والصّبر فإنّه بقدر الصّبر ينزل النّصر» وقال الأشتر يومئذ يحرّض الأزد: «عضّوا على النّواجذ من الأضراس واستقبلوا القوم بهامكم وشدّوا