وكان في ارتحاله من المشرق إلى المغرب قد أخذ نفسه مع تغيير المنكر الّذي شأنه وطريقته نشر العلم وتبين الفتاوى وتدريس الفقه والكلام. وكان له في طريقته الأشعرية إمامة وقدم راسخة. وهو الّذي أدخلها إلى المغرب كما ذكرناه، وتشوق طلبة العلم بتلمسان إلى الأخذ عنه وتفاوضوا في ذلك، وندب بعضهم بعضا إلى الرحلة إليه لاستجلابه، وأن يكون له السبق باتحاف القطر بعلومه، فانتدب لها عبد المؤمن بن عليّ مكانه من صغر السن بنشاطه للسفر لبداوته، فارتحل إلى بجاية للقائه وترغيبه في نزوله تلمسان فلقيه بملالة، وقد استحكمت بينه وبين العزيز النفرة وبنو ورياكل متعصّبون على إجارته منهم، ومنعه من إذايته والوصول إليه. فألقى إليه عبد المؤمن ما عنده من الترغيب، وأدّى إليه رسالة طلبة العلم بتلمسان فوعاها، وشأنه غير شأنهم.
وعكف عبد المؤمن على التعليم والأخذ عنه في ظعنه ومقامه. وارتحل إلى المغرب في صحابته، وصدق في العلم وآثره الإمام بمزيد الخصوصية والقرب، بما خصّه الله به من الفهم والوعي للتعليم، حتى كأنه خالصة لإمام وكنز صحابته. وكان يؤمله لخلافته لما ظهر عليه من الشواهد المدوّنة بذلك. ولما اجتازوا في طريقهم إلى المغرب بالثعالبة من موطن العرب الذين ذكرناهم قبل في نواحي المدينة، قرّبوا إليه حمارا فارها يتّخذه له عطية لمركوبه، فكان يؤثر به عبد المؤمن ويقول لأصحابه: أركبوه الحمار يركبكم الخيول المسوّمة. ولما بويع له بهرغة سنة خمس عشرة وخمسمائة، واتفقت على دعوته كلمة المصامدة وحاربوا لمتونة نازلوا مراكش.
وكانت بينهم في بعض أيام منازلتها حرب شديدة هلك فيها من الموحّدين الألف، فقيل للإمام إنّ الموحّدين قد هلكوا. فقال لهم: ما فعل عبد المؤمن؟ قالوا هو على جواده الأدهم قد أحسن البلاء. فقال ما بقي عبد المؤمن فلم يهلك أحد. ولما احتضر الإمام سنة اثنتين وعشرين [وخمسمائة] عهد بخلافته في أمره لعبد المؤمن، واستراب من العصبية بين المصامدة فكتم موت المهدي وأرجأ أمره حتى صرّح الشيخ أبو حفص أمير هنتاتة وكبير المصامدة لمصاهرته. وأمضى عهد الإمام فيه فقام بالأمر واستبد بشياخة الموحّدين وخلافة المسلمين. ونهض سنة سبع وثلاثين وخمسمائة إلى فتح المغرب فدانت له غمارة. ثم ارتحل منها إلى الريف ثم إلى بطوية، ثم إلى