اعتزازا عليهم. ثم أعادهم الطاغية بترديد الرغبة على أن يشترط ما شاء من عزّ دينه وقومه. فأسعفهم أمير المسلمين وجنح إلى السلم لما تيقن من صاغيتهم إليه وذلّهم لعزّ الإسلام. وأجابهم إلى ما سألوه واشترط عليهم ما تقبّلوه من مسالمة المسلمين كافة من قومه وغير قومه، والوقوف عند مرضاته في ولاية جيرانه من الملوك أو غداوتهم، ورفع الضريبة عن تجّار المسلمين بدار الحرب من بلاده، وترك التضريب بين ملوك المسلمين والدخول بينهم في فتنة. وبعث لعمّه عبد الحق ابن الترجمان باشتراط ذلك وأحكام عقده. فاستبلغ وأكّد في الوفاء. ووفدت رسل ابن الأحمر على الطاغية وهو عنده لعقد السلم معه دون أمير المسلمين على قومه، ومدافعته عنهم، فأحضرهم بمشهد ابن الترجمان وأسمعهم ما عقد أمير المسلمين على قومه وأهل ملّته. وقال لهم إنما أنتم عبيد آبائي فلستم معي في مقام السلم والحرب، وهذا أمير المسلمين ولست أطيق مقاومته ولا دفاعه عنكم فانصرفوا. ولما رأى عبد الحق صاغيته إلى مرضاة السلطان وسوس إليه بالوفادة لتتمكن الألفة وتستحكم العقدة، وأراه مغبة ذلك في سل السخيمة وتسكين الحفيظة وتمكين الألفة، فصغى إلى وفاته. وسأل لقيّ الأمير أبي يعقوب ولي عهده من قبل ليطمئن عليه، فوصل إليه ولقيه على فراسخ من شريش.
وباتا بمعسكر المسلمين هنالك. ثم ارتحلا من الغد للقاء أمير المسلمين وقد أمر الناس بالاحتفال للقاء الطاغية وقومه وإظهار شعار الإسلام أبهته، فاحتفلوا وتأهّبوا وأظهروا عزّ الملّة وشدّة الشوكة ووفور الحامية.
ولقيه أمير المسلمين بأحسن مبرّة وأتم كرامة يلقى بها مثله من عظماء الملل. وقدّم الطاغية بين يديه هديّة أتحف بها أمير المسلمين وابنه من ظرف بلاده، كان فيها زوج من الحيوان الوحشي المسمّى بالفيل، وحمارة من حمر الوحش إلى غير ذلك من الظرف. فقبلها السلطان وابنه وقابلوه بكفائها ومضاعفتها، وكمل عقد السلم، وتقبّل الطاغية سائر الشروط ورضي بعزّ الإسلام عنه. وانقلب إلى قومه بملء صدره من الرضا والمسرّة وسأل منه أمير المسلمين أن يبعث من كتب العلم التي بأيدي النصارى منذ استيلائهم على مدن الإسلام، فاستكثر من أصنافها في ثلاثة عشر حملا بعث بها إليه، فوقفها السلطان بالمدرسة التي أسسها بفاس لطلب العلم.
وقفل أمير المسلمين إلى الجزيرة لليلتين بقيتا لرمضان، فقضى صومه ونسكه. وجعل من قيام ليله جزءا لمحاضرة أهل العلم. وأعدّ الشعراء كلمات أنشدوها يوم الفطر بمشهد