فبادرت أهل الدولة إلى اصطفائه وإيثاره بخطة الإنشاء والكتاب عن السلطان إلى أن هلك الأمير أبو زكريا، ونصب ابنه محمّد مكانه، فكتب عنه على رسمه ثم هلك السلطان أبو يحيى، وزحف السلطان أبو الحسن إلى إفريقية واستولى على بجاية، ونقل الأمير محمدا بأهله وحاشيته إلى تلمسان كما تقدّم في أخباره، فنزل أبو القاسم البرجي تلمسان، وأقام بها واتصل خبره بأبي عنان ابن السلطان أبي الحسن وهو يومئذ أميرها، ولقيه، فوقع من قلبه بمكان إلى أن كانت واقعة القيروان.
وخلع أبو عنان واستبدّ بالأمر فاستكتبه وحمله إلى المغرب، ولم يسم به إلى العلامة لأنه آثر بها محمد بن أبي عمر بما كان أبوه يعلّمه القرآن والعلم. وربّي محمد بداره، فولّاه العلامة، والبرجي مرادف له في رياسته إلى أن انقرضوا جميعا. وهلك السلطان أبو عنان واستولى أخوه أبو سالم على ملك المغرب، وغلب ابن مرزوق على هواه كما قدّمناه، فنقل البرجيّ من الكتابة واستعمله في قضاء العساكر، فلم يزل على القضاء إلى أن هلك سنة ست وثمانين وسبعمائة وأخبرني رحمه الله ان مولده سنة عشر وسبعمائة.
(ومنهم شيخنا المعمّر الرحالة) أبو عبد الله محمد بن عبد الرزاق شيخ وقته جلالة وتربية وعلما وخبرة بأهل بلده، وعظمة فيهم. نشأ بفاس وأخذ عن مشيختها، وارتحل إلى تونس فلقي القاضي أبا إسحاق بن عبد الرفيع، والقاضي أبا عبد الله النفزاويّ. وأهل طبقتهما، وأخذ عنهم وتفقّه عليهم، ورجع إلى المغرب ولازم سنن الأكابر والمشايخ إلى أن ولّاه السلطان أبو الحسن القضاء بمدينة فاس، فأقام على ذلك إلى أن جاء السلطان أبو عنان من تلمسان بعد واقعة القيروان، وخلعه أباه فعزله بالفقيه أبي عبد الله المغربي، وأقام عطلا في بيته.
ولما جمع السلطان مشيخة العلم للتحليق بمجلسه، والإفادة منهم، واستدعى شيخنا أبا عبد الله بن عبد الرزاق، فكان يأخذ عنه الحديث، ويقرأ عليه القرآن برواياته في مجلس خاص إلى أن هلك رحمه الله بين يدي مهلك السلطان أبي عنان، إلى آخرين وآخرين من أهل المغرب والأندلس، كلّهم لقيت وذاكرت وأفدت منه، وأجازني بالإجازة العامّة.