أهل الدّولة ثمّ في من تعلّق بهم من أهل المصر وهم الأكثر فتعظم لذلك ثروتهم ويكثر غناهم وتتزيّد عوائد التّرف ومذاهبه وتستحكم لديهم الصّنائع في سائر فنونه وهذه هي الحضارة. ولهذا تجد الأمصار الّتي في القاصية ولو كانت موفورة العمران تغلب عليها أحوال البداوة وتبعد عن الحضارة في جميع مذاهبها بخلاف المدن المتوسّطة في الأقطار الّتي هي مركز الدّولة ومقرّها وما ذاك إلّا لمجاورة السّلطان لهم وفيض أمواله فيهم كالماء يخضرّ ما قرب منه فما قرب من الأرض إلى أن ينتهي إلى الجفوف على البعد وقد قدّمنا أنّ السّلطان والدّولة سوق للعالم.
فالبضائع كلّها موجودة في السّوق وما قرب منه وإذا أبعدت عن السّوق افتقدت البضائع جملة ثمّ إنّه إذا اتّصلت تلك الدّولة وتعاقب ملوكها في ذلك المصر واحدا بعد واحد استحكمت الحضارة فيهم وزادت رسوخا واعتبر ذلك في اليهود لمّا طال ملكهم بالشّام نحوا من ألف وأربعمائة سنة رسخت حضارتهم وحذقوا في أحوال المعاش وعوائده والتّفنّن في صناعاته من المطاعم والملابس وسائر أحوال المنزل حتّى إنّها لتؤخذ عنهم في الغالب إلى اليوم. ورسخت الحضارة أيضا وعوائدها في الشّام منهم ومن دولة الرّوم بعدهم ستّمائة سنة فكانوا في غاية الحضارة. وكذلك أيضا القبط دام ملكهم في الخليقة ثلاثة آلاف من السّنين فرسخت عوائد الحضارة في بلدهم مصر وأعقبهم بها ملك اليونان والرّوم ثمّ ملك الإسلام النّاسخ للكلّ. فلم تزل عوائد الحضارة بها متّصلة وكذلك أيضا رسخت عوائد الحضارة باليمن لاتّصال دولة العرب بها منذ عهد العمالقة والتّبابعة آلافا من السّنين وأعقبهم ملك مصر. وكذلك الحضارة بالعراق لاتّصال دولة النّبط والفرس بها من لدن الكلدانيّين والكيانيّة [١] والكسرويّة والعرب بعدهم آلافا من السّنين فلم يكن على