للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وسرت إلى السلطان أبي العبّاس وهو يومئذ قد خرج من تونس في العساكر إلى بلاد الجريد لاستنزال شيوخها عن كراسي الفتنة التي كانوا عليها، فوافيته بظاهر سوسة، فحيّا وفادتي برّ مقدمي وبالغ في تأنيسي، وشاورني في مهمّات أموره، ثم ردّني إلى تونس وأوعز إلى نائبة بها مولاه فارح بتهيئة المنزل، والكفاية من الجراية والعلوفة، وجزيل الإحسان، فرجعت إلى تونس في شعبان من السنة، وآويت إلى ظلّ ظليل من عناية السلطان وحرمته، وبعثت إلى الأهل والولد وجمعت شملهم في مرعى تلك النعمة، وألقيت عصا التسيار، وطالت غيبة السلطان إلى أن افتتح أمصار الجريد، وذهب فلّهم في النواحي، ولحق زعيمهم يحيى بن يملول ببسكرة، ونزل على صهره ابن مزني، وقسم السلطان بلاد الجريد بين ولده، فأنزل ابنه محمدا المنتصر بتوزر [١] وجعل نفطة ونفزاوة من أعماله، وأنزل ابنه أبا بكر بقفصة، وعاد إلى تونس مظفّرا مزهرا، فأقبل عليّ واستدناني لمجالسته، والنجاء في خلوته، فغصّ بطانته من ذلك، وأفاضوا في السعايات عند السلطان فلم تنجح، وكانوا يعكفون على إمام الجامع، وشيخ الفتيا محمد بن عرفة، وكان في قلبه نكتة من الغيرة من لدن اجتماعنا في المرسي بمجالسة الشيوخ، فكثيرا ما كان يظهر شفوفي [٢] عليه، وإن كان أسنّ مني فاسودّت تلك النكتة في قلبه، ولم تفارقه، ولما قدمت تونس انثال عليّ طلبة العلم من أصحابه وسواهم يطلبون الإفادة والاشتغال، وأسعفتهم بذلك، فعظم عليه، وكان يسرّ التنفير إلى الكثير منهم، فلم يقبلوا، واشتدّت غيرته ووافق ذلك اجتماع البطانة إليه، فاتفقوا على شأنهم في التأنيب والسعاية بي، والسلطان خلال ذلك معرض عنهم في ذلك، وقد كلّفني بالإكباب على تأليف هذا الكتاب لتشوّقه إلى المعارف والأخبار، واقتناء الفضائل فأكملت منه أخبار البربر وزناتة، وكتبت من أخبار الدولتين وما قبل الإسلام ما وصل اليّ منها، وأكملت منها نسخة رفعتها إلى خزانته. وكان مما يغرون به السلطان قعودي على امتداحه، فإنّي كنت قد أهملت الشعر وانتحاله جملة، وتفرّغت للعلم فقط، فكانوا يقولون له إنّما ترك ذلك استهانة بسلطانك لكثرة امتداحه للملوك قبلك، وتنسّمت ذلك عنهم من جهة بعض الصديق من بطانتهم، فلمّا رفعت له الكتاب وتوّجته باسمه أنشدت في


[١] نوزر: مدينة واقعة على الحافة الشمالية لشط الجريد بينها وبين نقطة عشرة فراسخ (معجم البلدان) .
[٢] شف عليه شفوفا إذا زاد أو نقص (لسان العرب) وهنا يعني الزيادة.

<<  <  ج: ص:  >  >>