للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المدرك وإليه تؤدّيه الحاسّة. ولهذا كانت الرّياحين والأزهار العطريّات أحسن رائحة وأشدّ ملاءمة للرّوح لغلبة الحرارة فيها الّتي هي مزاج الرّوح القلبيّ. وأمّا المرئيّات والمسموعات فالملائم فيها تناسب الأوضاع في أشكالها وكيفيّاتها فهو أنسب عند النّفس وأشدّ ملاءمة لها. فإذا كان المرئيّ متناسبا في أشكاله وتخاطيطه الّتي له بحسب مادّته بحيث لا يخرج عمّا تقتضيه مادّته الخاصّة من كمال المناسبة والوضع وذلك هو معنى الجمال والحسن في كلّ مدرك، كان ذلك حينئذ مناسبا للنّفس المدركة فتلتذّ بإدراك ملائمها، ولهذا تجد العاشقين المستهترين [١] في المحبّة يعبّرون عن غاية محبّتهم وعشقهم بامتزاج أرواحهم بروح المحبوب. وفي هذا شرّ تفهمه إن كنت من أهله وهو اتّحاد المبدإ وإن كان ما سواك إذا نظرته وتأمّلته رأيت بينك وبينه اتّحادا في البداءة. يشهد لك به اتّحاد كما في الكون ومعناه من وجه آخر أنّ الوجود يشرك بين الموجودات كما تقوله الحكماء. فتودّ أن يمتزج بمشاهدات [٢] فيه الكمال لتتّحد به، بل تروم النّفس حينئذ الخروج عن الوهم إلى الحقيقة الّتي هي اتّحاد المبدإ والكون. ولمّا كان أنسب الأشياء إلى الإنسان وأقربها إلى أن يدرك [٣] الكمال في تناسب موضوعها هو شكله الإنسانيّ فكان إدراكه للجمال والحسن في تخاطيطه وأصواته من المدارك الّتي هي أقرب إلى فطرته، فيلهج كلّ إنسان بالحسن من المرئيّ أو المسموع بمقتضى الفطرة. والحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبة لا متنافرة. وذلك أنّ الأصوات لها كيفيّات من الهمس والجهر والرّخاوة والشّدّة والقلقلة والضّغط وغير ذلك. والتّناسب فيها هو الّذي يوجب لها الحسن.

فأوّلا: أن لا يخرج من الصّوت إلى مدّه دفعة بل بتدريج، ثمّ يرجع كذلك، وهكذا إلى المثل، بل لا بدّ من توسّط المغاير بين الصّوتين. وتأمّل هذا من


[١] وفي نسخة أخرى: المشتهرين.
[٢] وفي نسخة أخرى: بما شاهدت.
[٣] وفي نسخة أخرى: مدرك.

<<  <  ج: ص:  >  >>