للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بعض. ثمّ يشرع في فعلها. وأوّل هذا الفكر هو المسبّب الأخير، وهو آخرها في العمل. وأوّلها في العمل هو المسبّب الأوّل وهو آخرها في الفكر. ولأجل العثور على هذا الترتيب يحصل الانتظام في الأفعال البشريّة.

وأمّا الأفعال الحيوانيّة لغير البشر فليس فيها انتظام لعدم الفكر الّذي يعثر به الفاعل على التّرتيب فيما يفعل، إذ الحيوانات إنّما تدرك بالحواسّ ومدركاتها متفرّقة خليّة من الرّبط لأنّه لا يكون إلّا بالفكر. ولمّا كانت الحواسّ المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة، وغير المنتظمة إنّما هي تبع لها، اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها، فكانت مسخّرة للبشر. واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث، بما فيه، فكان كلّه في طاعته وتسخّره. وهذا معنى الاستحلاف المشار إليه في قوله تعالى: «إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً ٢: ٣٠ [١] » فهذا الفكر هو الخاصّة البشريّة الّتي تميّز بها البشر عن غيره من الحيوان. وعلى قدر حصول الأسباب والمسبّبات في الفكر مرتّبة تكون إنسانيّته. فمن النّاس من تتوالى له السببيّة في مرتبتين أو ثلاث، ومنهم من لا يتجاوزها، ومنهم من ينتهي إلى خمس أو ست فتكون إنسانيّته أعلى. واعتبر ذلك بلاعب الشّطرنج: فإنّ في اللاعبين من يتصوّر الثّلاث حركات والخمس الّذي ترتيبها وضعيّ، ومنهم من يقصّر عن ذلك لقصور ذهنه. وإن كان هذا المثال غير مطابق، لأنّ لعب الشّطرنج بالملكة، ومعرفة الأسباب والمسبّبات بالطبع، لكنّه مثال يحتذي به الناظر في تعقّل ما يورد عليه من القواعد. والله خلق الإنسان وفضّله على كثير ممّن خلق تفضيلا.


[١] من آية (٣٠) من سورة البقرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>