عالم الحسّ. ثمّ نستدلّ على عالم ثالث فوقنا بما نجد فينا من آثاره الّتي تلقى في أفئدتنا كالإرادات والوجهات، نحو الحركات الفعليّة، فنعلم أنّ هناك فاعلا يبعثنا عليها من عالم فوق عالمنا وهو عالم الأرواح والملائكة. وفيه ذوات مدركة لوجود آثارها فينا مع ما بيننا وبينها من المغايرة. وربّما يستدلّ على هذا العالم الأعلى الروحانيّ وذواته بالرّؤيا وما نجد في النوم، ويلقى إلينا فيه من الأمور الّتي نحن في غفلة عنها في اليقظة، وتطابق الواقع في الصّحيحة منها، فنعلم أنّها حقّ ومن عالم الحقّ. وأمّا أضغاث الأحلام فصور خياليّة يخزنها الإدراك في الباطن ويجول فيها الفكر بعد الغيبة عن الحسّ. ولا نجد على هذا العالم الروحانيّ برهانا أوضح من هذا، فنعلمه كذلك على الجملة ولا ندرك له تفصيلا.
وما يزعمه الحكماء الإلهيّون في تفصيل ذواته وترتيبها، المسمّاة عندهم بالعقول، فليس شيء من ذلك بيقينيّ لاختلال شرط البرهان النّظريّ فيه، كما هو مقرّر في كلامهم في المنطق. لأنّ من شرطه أن تكون قضاياه أوّليّة ذاتيّة.
وهذه الذوات الروحانيّة مجهولة الذاتيّات، فلا سبيل للبرهان فيها. ولا يبقى لنا مدرك في تفاصيل هذه العوالم إلّا ما نقتبسه من الشّرعيّات الّتي يوضحها الإيمان ويحكمها. وأعقد هذه العوالم في مدركنا عالم البشر، لأنّه وجدانيّ مشهود في مداركنا الجسمانيّة والروحانيّة. ويشترك في عالم الحسّ مع الحيوانات وفي عالم العقل والأرواح مع الملائكة الّذين ذواتهم من جنس ذواته، وهي ذوات مجرّدة عن الجسمانيّة والمادّة، وعقل صرف يتّحد فيه العقل والعاقل والمعقول، وكأنّه ذات حقيقتها الإدراك والعقل، فعلومهم حاصلة دائما مطابقة بالطبع لمعلوماتهم لا يقع فيها خلل البتّة.
وعلم البشر هو حصول صورة المعلوم في ذواتهم بعد أن لا تكون حاصلة. فهو كلّه مكتسب، والذات الّتي يحصل فيها صور المعلومات وهي النفس مادّة هيولانيّة تلبس صور الوجود بصور المعلومات الحاصلة فيها شيئا شيئا، حتّى