للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذهنه في حلّها ويحسبون ذلك مرانا على التّعليم وصوابا فيه ويكلّفونه رعي ذلك وتحصيله ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات [١] الفنون في مبادئها وقبل أن يستعدّ لفهمها فإنّ قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا ويكون المتعلّم أوّل الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلّا في الأقلّ وعلى سبيل التّقريب والإجمال والأمثال الحسّيّة. ثمّ لا يزال الاستعداد فيه يتدرّج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفنّ وتكرارها عليه والانتقال فيها من التّقريب إلى الاستيعاب الّذي فوقه، حتّى تتمّ الملكة في الاستعداد ثمّ في التّحصيل ويحيط هو بمسائل الفنّ وإذا ألقيت عليه الغايات في البداءات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كلّ ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه. وإنّما أتى ذلك من سوء التّعليم. ولا ينبغي للمعلّم أن يزيد متعلّمه على فهم كتابه الّذي أكبّ على التّعليم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتّعليم مبتدئا كان أو منتهيا ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتّى يعيه من أوّله إلى آخره ويحصّل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره. لأنّ المتعلّم إذا حصّل ملكة ما في علم من العلوم استعدّ بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في طلب المزيد والنّهوض إلى ما فوق حتّى يستولي على غايات العلم وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التّحصيل وهجر العلم والتّعليم. والله يهدي من يشاء. وكذلك ينبغي لك أن لا تطوّل على المتعلّم في الفنّ الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها لأنّه ذريعة إلى النّسيان وانقطاع مسائل الفنّ بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها. وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنّسيان كانت الملكة أيسر حصولا وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة لأنّ الملكات إنّما تحصل بتتابع الفعل وتكراره وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة النّاشئة عنه. والله علّمكم ما لم تكونوا


[١] وفي نسخة أخرى: غرائب.

<<  <  ج: ص:  >  >>