للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنّها صفة غير راسخة ثمّ يزيد التّكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة. فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته [١] اللّغة العربيّة موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفيّة تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصّبيّ استعمال المفردات في معانيها فيلقّنها أوّلا ثمّ يسمع التّراكيب بعدها فيلقّنها كذلك. ثمّ لا يزال سماعهم لذلك يتجدّد في كلّ لحظة ومن كلّ متكلّم واستعماله يتكرّر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم. هكذا تصيّرت الألسن واللّغات من جيل إلى جيل وتعلّمها العجم والأطفال. وهذا هو معنى ما تقوله العامّة من أنّ اللّغة للعرب بالطّبع أي بالملكة الأولى الّتي أخذت عنهم ولم يأخذوها عن غيرهم. ثمّ إنّه لما فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم وسبب فسادها أنّ النّاشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيّات أخرى غير الكيفيّات الّتي كانت للعرب فيعبّر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم ويسمع كيفيّات العرب أيضا فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى. وهذا معنى فساد اللّسان العربيّ. ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللّغات العربيّة وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم. ثمّ من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم. وأمّا من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسّان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والرّوم والحبشة فلم تكن لغتهم تامّة الملكة بمخالطة الأعاجم. وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الاحتجاج بلغاتهم في الصّحّة والفساد عند أهل الصّناعة العربيّة. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.


[١] الضمير يعود إلى اللغة. وفي النسخة الباريسية ملكة اللغة.

<<  <  ج: ص:  >  >>