للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأسجاع والتزام التّقفية وتقديم النّسب بين يدي الأغراض. وصار هذا المنثور إذا تأمّلته من باب الشّعر وفنّه ولم يفترقا إلّا في الوزن. واستمرّ المتأخّرون من الكتّاب على هذه الطّريقة واستعملوها في المخاطبات السّلطانيّة وقصروا الاستعمال في المنثور كلّه على هذا الفنّ الّذي ارتضوه وخلطوا الأساليب فيه وهجروا المرسل وتناسوه وخصوصا أهل المشرق. وصارت المخاطبات السّلطانيّة لهذا العهد عند الكتّاب الغفّل جارية على هذا الأسلوب الّذي أشرنا إليه وهو غير صواب من جهة البلاغة لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال من أحوال المخاطب والمخاطب. وهذا الفنّ المنثور المقفّى أدخل المتأخّرون فيه أساليب الشّعر فوجب أن تنزّه المخاطبات السّلطانيّة عنه إذ أساليب الشّعر تنافيها اللّوذعيّة وخلط الجدّ بالهزل والإطناب في الأوصاف وضرب الأمثال وكثرة التّشبيهات والاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب. والتزام التّقفية أيضا من اللّوذعة والتّزيين وجلال الملك والسّلطان وخطاب الجمهور عن الملوك بالتّرغيب والتّرهيب ينافي ذلك ويباينه. والمحمود في المخاطبات السّلطانيّة التّرسّل وهو إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيع إلّا في الأقل النّادر. وحيث ترسله الملكة إرسالا من غير تكلّف له ثمّ إعطاء الكلام حقّه في مطابقته لمقتضى الحال فإنّ المقامات مختلفة ولكلّ مقام أسلوب يخصّه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة أو كناية واستعارة. وأمّا إجراء المخاطبات السّلطانيّة على هذا النّحو الّذي هو على أساليب الشّعر فمذموم وما حمل عليه أهل العصر إلّا استيلاء العجمة على ألسنتهم وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقّه في مطابقته لمقتضى الحال فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة وانفساح خطوبه [١] . وولعوا بهذا المسجّع يلفّقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود ومقتضى الحال فيه. ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع


[١] وفي نسخة أخرى: خطوته.

<<  <  ج: ص:  >  >>