للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فتأمّل هذا المطبوع، الفقيد الصنعة، في إحكام تأليفه وثقافة تركيبه. فلو جاءت فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسنا.

وأمّا المصنوع فكثير من لدن بشّار، ثمّ حبيب وطبقتهما، ثمّ ابن المعتزّ خاتم الصنعة الّذي جرى المتأخّرون بعدهم في ميدانهم، ونسجوا على منوالهم.

وقد تعدّدت أصناف هذه الصنعة عند أهلها، واختلفت اصطلاحاتهم في ألقابها.

وكثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنّها غير داخلة في الإفادة، وأنّها هي تعطي التحسين والرّونق. وأمّا المتقدّمون من أهل البديع، فهي عندهم خارجة عن البلاغة. ولذلك يذكرونها في الفنون الأدبيّة الّتي لا موضوع لها. وهو رأي ابن رشيق في كتاب العمدة له، وأدباء الأندلس. وذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطا، منها أن تقع من غير تكلّف ولا اكتراث في ما يقصد منها. وأمّا العفو فلا كلام فيه لأنّها إذا برئت من التكلّف سلم الكلام من عيب الاستهجان، لأنّ تكلّفها ومعاناتها يصير إلى الغفلة عن التراكيب الأصليّة للكلام، فتخلّ بالإفادة من أصلها، وتذهب بالبلاغة رأسا. ولا يبقى في الكلام إلّا تلك التحسينات، وهذا هو الغالب اليوم على أهل العصر. وأصحاب الأذواق في البلاغة يسخرون من كلفهم بهذه الفنون، ويعدّون ذلك من القصور عن سواه. وسمعت شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقيّ، وكان من أهل البصر في اللّسان والقريحة في ذوقه يقول: إنّ من أشهى ما تقترحه عليّ نفسي أن أشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا البديع في نظمه أو نثره، وقد عوقب بأشدّ العقوبة، ونودي عليه، يحذّر بذلك تلميذه أن يتعاطوا هذه الصنعة، فيكلّفون بها، ويتناسون البلاغة. ثمّ من شروط استعمالها عندهم الإقلال منها وأن تكون في بيتين أو ثلاثة من القصيد، فتكفي في زينة الشعر ورونقه. والإكثار منها عيب، قاله ابن رشيق وغيره. وكان شيخنا أبو القاسم الشريف السّبتيّ منفق اللّسان العربيّ بالأندلس لوقته يقول: هذه الفنون البديعيّة إذا وقعت للشاعر أو للكاتب فيقبح أن يستكثر منها، لأنّها من

<<  <  ج: ص:  >  >>