ويبتغون الرزق في غالب أحوالهم من القنص، ويختطف الناس من السبل، ويتقلبون دائما في المجالات فرارا من حمارّة القيظ تارة، وصبارة البرد أخرى، وانتجاعا لمراعي غنمهم، وارتيادا لمصالح إبلهم الكفيلة بمعاشهم، وحمل أثقالهم ودفئهم ومنافعهم، فاختصوا لذلك بسكنى الإقليم الثالث ما بين البحر المحيط من المغرب الى أقصى اليمن وحدود الهند من المشرق. فعمروا اليمن والحجاز ونجدا وتهامة وما وراء ذلك مما دخلوا إليه في المائة الخامسة كما ذكروه من مصر وصحاري برقة وتلولها وقسنطينة وإفريقية وزاغا والمغرب الأقصى والسوس، لاختصاص هذه البلاد بالرمال والقفار المحيطة بالأرياف والتلول والأرياف الآهلة بمن سواهم من الأمم في فصل الربيع وزخرف الأرض لرعي الكلإ والعشب في منابتها، والتنقل في نواحيها الى فصل الصيف لمدّة الأقوات في سنتهم من حبوبها. وربما يلحق أهل العمران أثناء ذلك معرات من أضرارهم بإفساد السابلة، ورعي الزرع مخضرّا، وانتهابه قائما وحصيدا إلا ما حاطته الدولة، وذادت عنه الحامية في الممالك التي للسلطان عليهم فيها. ثم ينحدرون في فصل الخريف الى القفار لرعي شجرها، ونتاج إبلهم في رمالها، وما أحاط به عملهم من مصالحها، وفرارا بأنفسهم وظعائنهم من أذى البرد الى دفء مشاتيها. فلا يزالون في كل عام مترددين بين الريف والصحراء ما بين الإقليم الثالث والرابع صاعدين ومنحدرين على ممر الأيام، شعارهم لبس المخيط في الغالب، ولبس العمائم تيجانا على رءوسهم يرسلون من أطرافها عذبات يتلثم قوم منهم بفضلها وهم عرب المشرق، وقوم يلفون منها الليث والأخدع قبل لبسها ثم يتلثمون بما تحت أذقانهم من فضلها وهم عرب المغرب حاكوا بها عمائم زناتة من أمم البربر قبلهم. وكذلك لقنوا منهم في حمل السلاح اعتقال الرماح الخطية، وهجروا تنكب القسي. وكان المعروف لأولهم ومن بالمشرق لهذا العهد منهم استعمال الأمرين.
ثم إنّ العرب لم يزالوا موسومين بين الأمم بالبيان في الكلام والفصاحة في المنطق والذلاقة في اللسان ولذلك سموا بهذا الاسم فإنه مشتق من الابانة لقولهم أعرب الرجل عما في ضميره إذا أبان عنه. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«الثيب تعرب عن نفسها» . والبيان سمتهم بين الأمم منذ كانوا. وانظر قصة كسرى لما طلب من خليفته على العرب النعمان بن المنذر أن يوفد عليه من كبرائهم وخطبائهم من رضي لذلك، فاختار منهم وفد أوفده عليه وكان من خبره واستغراب ما جاءوا به من البيان ما هو معروف