للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غذاء واستغنى به عن الحنطة والحبوب من غير شك وكذا من عوّد نفسه الصّبر على الجوع والاستغناء عن الطّعام كما ينقل عن أهل الرّياضيّات فإنّا نسمع عنهم في ذلك أخبارا غريبة يكاد ينكرها من لا يعرفها والسّبب في ذلك العادة فإنّ النّفس إذا ألفت شيئا صار من جبلتها وطبيعتها لأنّها كثيرة التّلوّن فإذا حصل لها اعتياد الجوع بالتّدريج والرّياضة فقد حصل ذلك عادة طبيعيّة لها وما يتوهّمه الأطبّاء من أنّ الجوع مهلك فليس على ما يتوهّمونه إلّا إذا حملت النّفس عليه دفعة وقطع عنها الغذاء بالكليّة فإنّه حينئذ ينحسم المعاء ويناله المرض الّذي يخشى معه الهلاك وأمّا إذا كان ذلك القدر تدريجا ورياضة بإقلال الغذاء شيئا فشيئا كما يفعله المتصوّفة فهو بمعزل عن الهلاك وهذا التّدريج ضروريّ حتّى في الرّجوع عن هذه الرّياضة فإنّه إذا رجع به إلى الغذاء الأوّل دفعة خيف عليه الهلاك وإنّما يرجع به كما بدأ في الرّياضة بالتّدريج ولقد شاهدنا من يصبر على الجوع أربعين يوما وصالا وأكثر. وحضر أشياخنا بمجلس السّلطان أبي الحسن وقد رفع إليه امرأتان من أهل الجزيرة الخضراء ورندة حبستا أنفسهما عن الأكل جملة منذ سنين وشاع أمرهما ووقع اختبارهما فصحّ شأنهما واتّصل على ذلك حالهما إلى أن ماتتا ورأينا كثيرا من أصحابنا أيضا من يقتصر على حليب شاة من المعز يلتقم ثديها في بعض النّهار أو عند الإفطار ويكون ذلك غذاءه واستدام على ذلك خمس عشرة سنة وغيرهم كثير ولا يستنكر ذلك. واعلم أنّ الجوع أصلح للبدن من إكثار الأغذية بكلّ وجه لمن قدر عليه أو على الإقلال منها وإنّ له أثرا في الأجسام والعقول في صفائها وصلاحها كما قلناه واعتبر ذلك بآثار الأغذية الّتي تحصل عنها في الجسوم فقد رأينا المتغذّين بلحوم الحيوانات الفاخرة العظيمة الجثمان تنشأ أجيالهم كذلك وهذا مشاهد في أهل البادية مع أهل الحاضرة وكذا المتغذّون بألبان الإبل ولحومها أيضا مع ما يؤثّر في أخلاقهم من الصّبر والاحتمال والقدرة على حمل الأثقال الموجود ذلك للإبل وتنشأ أمعاؤهم أيضا على نسبة أمعاء الإبل

<<  <  ج: ص:  >  >>