الاستعانة بالتّصوّرات الأجنبيّة كانت داخلة في إدراكه والتبست بالإدراك الّذي توجّه إليه فصار مختلطا بها وطرقه الكذب من هذه الجهة فامتنع أن تكون نبوة وإنّما قلنا إنّ أرفع مراتب الكهانة حالة السّجع لأنّ معنى السّجع أخفّ من سائر المغيّبات من المرئيّات والمسموعات وتدلّ خفّة المعنى على قرب ذلك الاتّصال والإدراك والبعد فيه عن العجز بعض الشّيء وقد زعم بعض النّاس أنّ هذه الكهانة قد انقطعت منذ زمن النّبوة بما وقع من شأن رجم الشّياطين بالشّهب بين يدي البعثة وأنّ ذلك كان لمنعهم من خبر السّماء كما وقع في القرآن والكهّان إنّما يتعرّفون أخبار السّماء من الشّياطين فبطلت الكهانة من يومئذ ولا يقوم من ذلك دليل لأنّ علوم الكهّان كما تكون من الشّياطين تكون من نفوسهم أيضا كما قرّرناه وأيضا فالآية إنّما دلّت على منع الشّياطين من نوع واحد من أخبار السّماء وهو ما يتعلّق بخبر البعثة ولم يمنعوا ممّا سوى ذلك. وأيضا فإنّما كان ذلك الانقطاع بين يدي النّبوة فقط ولعلّها عادت بعد ذلك إلى ما كانت عليه وهذا هو الظّاهر لأنّ هذه المدارك كلّها تخمد في زمن النّبوة كما تخمد الكواكب والسّرج عند وجود الشّمس لأنّ النّبوة هي النّور الأعظم الّذي يخفى معه كلّ نور ويذهب.
وقد زعم بعض الحكماء أنّها إنّما توجد بين يدي النّبوة ثمّ تنقطع وهكذا كلّ نبؤه وقعت لأنّ وجود النّبوة لا بدّ له من وضع فلكيّ يقتضيه وفي تمام ذلك الوضع تمام تلك النّبوة الّتي دلّ عليها ونقص ذلك الوضع عن التّمام يقتضي وجود طبيعة من ذلك النّوع الّذي يقتضيه ناقصة وهو معنى الكاهن على ما قرّرناه فقبل أن يتمّ ذلك الوضع الكامل يقع الوضع النّاقص ويقتضي وجود الكاهن إمّا واحدا أو متعدّدا فإذا تمّ ذلك الوضع تمّ وجود النّبيّ بكماله وانقضت الأوضاع الدّالّة على مثل تلك الطّبيعة فلا يوجد منها شيء بعد وهذا بناء على أنّ بعض الوضع الفلكيّ يقتضي بعض أثره وهو غير مسلّم. فلعلّ الوضع إنّما يقتضي ذلك الأثر بهيئته الخالصة ولو نقص بعض أجزائها فلا يقتضي شيئا، لا إنّه يقتضي ذلك الأثر