للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مثلّجا وعلى الثّالثة خمرا صرفا وقال في الأوّل والثّاني هذا طعام أمير المؤمنين إن خلط السّمك بغيره أو لم يخلطه وقال في الثّالث هذا طعام ابن بختيشوع ودفعها إلى صاحب المائدة حتّى إذا انتبه الرّشيد وأحضره للتّوبيخ، أحضر الثلاثة الأقداح فوجد صاحب الخمر قد اختلط وأماع وتفتّت ووجد الآخرين قد فسدا وتغيرت رائحتهما فكانت له في ذلك معذرة وتبين من ذلك أنّ حال الرّشيد في اجتناب الخمر كانت معروفة عند بطانته وأهل مائدته ولقد ثبت عنه أنّه عهد بحبس أبي نواس لما بلغه من انهماكه في المعاقرة حتّى تاب وأقلع وإنّما كان الرّشيد يشرب نبيذ التّمر على مذهب أهل العراق [١] وفتاويهم فيها معروفة وأمّا الخمر الصّرف فلا سبيل إلى اتّهامه بها ولا تقليد الأخبار الواهية فيها فلم يكن الرّجل بحيث يواقع محرّما من أكبر الكبائر عند أهل الملّة ولقد كان أولئك القوم كلّهم بمنحاة من ارتكاب السّرف والتّرف في ملابسهم وزينتهم وسائر متناولاتهم لما كانوا عليه من خشونة البداوة وسذاجة الدّين الّتي لم يفارقوها بعد فما ظنّك بما يخرج عن الإباحة إلى الحظر وعن الحلّة إلى الحرمة ولقد اتّفق المؤرّخون الطّبريّ والمسعوديّ وغيرهم على أنّ جميع من سلف من خلفاء بني أميّة وبني العبّاس إنّما كانوا يركبون بالحلية الخفيفة من الفضّة في المناطق والسّيوف واللّجم والسّروج وأنّ أوّل خليفة أحدث الرّكوب بحلية الذّهب هو المعتزّ بن المتوكّل ثامن الخلفاء بعد الرّشيد وهكذا كان حالهم أيضا في ملابسهم فما ظنّك بمشاربهم؟ ويتبيّن ذلك بأتمّ من هذا إذا فهمت طبيعة الدّولة في أوّلها من البداوة والغضاضة كما نشرح في مسائل الكتاب الأوّل إن شاء الله والله الهادي إلى الصّواب. ويناسب هذا أو قريب منه ما ينقلونه كافّة عن يحيى بن أكثم قاضي المأمون وصاحبه وأنّه كان يعاقر الخمر وأنّه سكر ليلة مع شربه [٢] فدفن في الرّيحان حتّى أفاق وينشدون على لسانه:

يا سيّدي وأمير النّاس كلّهم ... قد جار في حكمه من كان يسقيني


[١] يقصد به مذهب أبي حنيفة.
[٢] الشرب: الذين يشربون معا، جمع شارب (قاموس) .

<<  <  ج: ص:  >  >>