وعمّارها وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم الأموال وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة فتركوا العمارة والنّظر في العواقب وما يصلح الضّياع وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمّار الضّياع فانجلوا عن ضياعهم وخلّوا ديارهم وأووا إلى ما تعذّر من الضّياع فسكنوها فقلّت العمارة وخربت الضّياع وقلّت الأموال وهلكت الجنود والرّعيّة وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع الموادّ الّتي لا تستقيم دعائم الملك إلّا بها. فلمّا سمع الملك ذلك أقبل على النّظر في ملكه وانتزعت الضّياع من أيدي الخاصّة وردّت على أربابها وحملوا على رسومهم السالفة وأخذوا في العمارة وقوي من ضعف منهم فعمرت الأرض وأخصبت البلاد وكثرت الأموال عند جباة الخراج وقويت الجنود وقطعت موادّ الأعداء وشحنت الثّغور وأقبل الملك على مباشرة أموره بنفسه فحسنت أيّامه وانتظم ملكه فتفهّم من هذه الحكاية أنّ الظّلم مخرّب للعمران وأنّ عائدة الخراب في العمران على الدّولة بالفساد والانتقاض. ولا تنظر في ذلك إلى أنّ الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدّول الّتي بها ولم يقع فيها خراب واعلم أنّ ذلك إنّما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر فلمّا كان المصر كبيرا وعمرانه كثيرا وأحواله متّسعة بما لا ينحصر كان وقوع النّقص فيه بالاعتداء والظّلم يسيرا لأنّ النّقص إنّما يقع بالتّدريج فإذا خفي بكثرة الأحوال واتّساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلّا بعد حين وقد تذهب تلك الدّولة المعتدية من أصلها قبل خراب وتجيء الدّولة الأخرى فترفعه بجدّتها وتجبر النّقص الّذي كان خفيّا فيه فلا يكاد يشعر به إلّا أنّ ذلك في الأقلّ النّادر والمراد من هذا أنّ حصول النّقص في العمران عن الظّلم والعدوان أمر واقع لا بدّ منه لما قدّمناه ووباله عائد على الدّول. ولا تحسبنّ الظّلم إنّما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور بل الظّلم أعمّ من ذلك وكلّ من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حقّ أو فرض عليه