للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدّول سنّة الله الّتي قد خلت في عباده وقد كانت في العالم أمم الفرس الأولى والسّريانيّون والنّبط والتّبابعة وبنو إسرائيل والقبط وكانوا على أحوال خاصّة بهم في دولهم وممالكهم وسياستهم وصنائعهم [١] ولغاتهم واصطلاحاتهم وسائر مشاركاتهم مع أبناء جنسهم وأحوال اعتمارهم للعالم تشهد بها آثارهم ثمّ جاء من بعدهم الفرس الثّانية والرّوم والعرب فتبدّلت تلك الأحوال وانقلبت بها العوائد إلى ما يجانسها أو يشابهها وإلى ما يباينها أو يباعدها ثمّ جاء الإسلام بدولة مضر فانقلبت تلك الأحوال أجمع انقلابة أخرى وصارت إلى ما أكثره متعارف لهذا العهد يأخذه الخلف عن السّلف ثمّ درست دولة العرب وأيّامهم وذهبت الأسلاف الذين شيّدوا عزّهم ومهّدوا ملكهم وصار الأمر في أيدي سواهم من العجم مثل التّرك بالمشرق والبربر بالمغرب والفرنجة بالشّمال فذهبت بذهابهم أمم وانقلبت أحوال وعوائد نسي شأنها وأغفل أمرها والسّبب الشّائع في تبدّل الأحوال والعوائد أنّ عوائد كلّ جيل تابعة لعوائد سلطانه كما يقال في الأمثال الحكميّة النّاس على دين الملك وأهل الملك والسّلطان إذا استولوا على الدّولة والأمر فلا بدّ من أن يفزعوا إلى [٢] عوائد من قبلهم ويأخذون الكثير منها ولا يغفلون عوائد جيلهم مع ذلك فيقع في عوائد الدّولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأوّل فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم ومزجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضا بعض الشّيء وكانت للأولى أشدّ مخالفة ثمّ لا يزال التّدريج في المخالفة حتّى ينتهي إلى المباينة بالجملة فما دامت الأمم والأجيال تتعاقب في الملك والسّلطان لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال واقعة. والقياس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة ومن الغلط غير مأمونة تخرجه مع الذّهول والغفلة عن قصده وتعوّج به [٣] عن مرامه فربّما يسمع


[١] صنائع: جمع صناعة، وجمع صنيعة بمعنى الإحسان (قاموس) .
[٢] وفي بعض النسخ (لا بدّ وأن) وهو تركيب غير فصيح وقد استعمله ابن خلدون كثيرا في كتابه والأصح استعمال «لا بدّ أن ... » وفزع إلى معنى: لجأ إلى.
[٣] بمعنى ترجع به.

<<  <  ج: ص:  >  >>