للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحقّ والله الهادي للصّواب وقد كدنا أن نخرج عن غرض الكتاب بالإطناب في هذه المغالط فقد زلّت أقدام كثير من الأثبات والمؤرّخين الحفّاظ في مثل هذه الأحاديث والآراء وعلقت أفكارهم ونقلها عنهم الكافّة من ضعفة النّظر والغفلة عن القياس وتلقّوها هم أيضا كذلك من غير بحث ولا رويّة واندرجت في محفوظاتهم حتّى صار فنّ التّاريخ واهيا مختلطا وناظره مرتبكا وعدّ من مناحي العامّة فإذا يحتاج صاحب هذا الفنّ إلى العلم بقواعد السّياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السّير والأخلاق والعوائد والنّحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف وتعليل المتّفق منها والمختلف والقيام على أصول الدّول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم حتّى يكون مستوعبا لأسباب كلّ خبره وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا وإلّا زيّفه واستغنى عنه وما استكبر القدماء علم التّاريخ إلّا لذلك حتّى انتحله الطّبريّ والبخاريّ وابن إسحاق من قبلهما وأمثالهم من علماء الأمّة وقد ذهل الكثير عن هذا السّر فيه حتّى صار انتحاله مجهلة [١] واستخفّ العوامّ ومن لا رسوخ له في المعارف مطالعته وحمله والخوض فيه والتّطفّل عليه فاختلط المرعيّ بالهمل [٢] واللّباب بالقشر والصّادق بالكاذب وإلى الله عاقبة الأمور ومن الغلط الخفيّ في التّاريخ الذّهول عن تبدّل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدّل الأعصار ومرور الأيّام وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلّا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطّن له إلّا الآحاد من أهل الخليقة وذلك أنّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقرّ إنّما هو اختلاف على الأيّام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال وكما يكون ذلك في الأشخاص


[١] المجهلة: ما يحملك على الجهل (قاموس) .
[٢] هو مثل جيد لاختلاط الجيد بالقبيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>