حواشيهم، وعاد من ذلك إلى نفوسهم هينات الجبن والكسل، بما يعانونه من ضنث الحضارة المؤدّي إلى الانسلاخ من شعار البأس والرجوليّة بمفارقة البداوة وخشونتها، وبأخذهم العزّ بالتطاول إلى الرئاسة والتّنازع عليها، فيفضي إلى قتل بعضهم ببعض، ويكبحهم السّلطان عن ذلك بما يؤدّي إلى قتل أكابرهم وإهلاك رؤسائهم، فتفقد الأمراء والكبراء، وتكثر التّابع والمرءوس، فيقلّ ذلك من حدّ الدولة، ويكسر من شوكتها. ويقع الخلل الأوّل في الدّولة، وهو الّذي من جهة الجند والحامية كما تقدّم. ويساوق ذلك السّرف في النّفقات بما يعتريهم من أبّهة العزّ، وتجاوز الحدود بالبذخ. بالمناغاة في المطاعم والملابس وتشييد القصور واستجادة السّلاح وارتباط الخيول، فيقصر دخل الدّولة حينئذ عن خرجها ويطرق الخلل الثّاني في الدّولة وهو الّذي من جهة المال والجباية. ويحصل العجز والانتقاص بوجود الخللين. وربّما تنافس رؤساؤهم فتنازعوا وعجزوا عن مغالبة المجاورين والمنازعين ومدافعتهم. وربّما اعتزّ أهل الثّغور والأطراف بما يحسبون من ضعف الدّولة وراءهم، فيصيرون إلى الاستغلال والاستبداد بما في أيديهم من العمالات، ويعجز صاحب الدّولة عن حملهم على الجادّة فيضيق نطاق الدّولة عمّا كانت انتهت إليه في أوّلها، وترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه، إلى أن يحدث في النّطاق الثّاني ما حدث في الأوّل بعينه من العجز والكسل في العصابة وقلّة الأموال والجباية. فيذهب القائم بالدّولة إلى تغيير القوانين الّتي كانت عليها سياسة الدّولة من قبل الجند والمال والولايات، ليجري حالها على استقامة بتكافؤ الدّخل والخرج والحامية والعمالات وتوزيع الجباية على الأرزاق، ومقايسة ذلك بأوّل الدّولة في سائر الأحوال.
والمفاسد مع ذلك متوقّعة من كلّ جهة. فيحدث في هذا الطّور من بعد ما حدث في الأوّل من قبل، ويعتبر صاحب الدّولة ما اعتبره الأوّل، ويقايس