وراى أن قد شفى نفسه بإخراج هؤلاء الخلائق من أرماسهم، والعيث بأشلائهم لما نقم منه الموحّدون. وأزعجوه من قراره، فنكرها السلطان لجلاله. وتجاوز عنها للملياني تأنيسا لقربته وجواره، وعدّها من هناته.
ولما وصل أمير المسلمين إلى حضرته من غزاة الجهاد، ترادفت عليه أخبار هذه الملحمة، وقطع دابر بني عبد المؤمن، فتظاهر السرور لديه، وارتفعت إلى الله كلمات الشكر طيبة منه. ولما سكن غرب الثوار، وتمهّد أمر المغرب، ورأى أمير المسلمين أنّ أمره قد استفحل، وملكه قد استوسق، واتسع نطاق دولته، وعظمت غاشيته وكثر وافده، رأى أن يختط بلدا يتميز بسكناه في حاشيته وأهل خدمته وأوليائه الحاملين سرير ملكه. فأمر ببناء البلد الجديد لصق فاس، بساحة الوادي المخترق وسطها من أعلاه، وشرع في تأسيسها لثالث من شوال في سنة أربع وسبعين وستمائة هذه.
وجمع الأيدي عليها، وحشد الصنّاع والفعلة لبنائها. وأحضر لها الحزّى والمعدلين لحركات الكواكب، فاعتاموا في الطوالع النجومية مما يرضون أثره، ورصدوا أوانه.
وكان فيهم الإمامان أبو الحسن بن القطّان وأبو عبد الله بن الحبّاك، المقدّمان في الصناعة، فكمل تشييد هذه المدينة على ما رسم وكما رضي. ونزلها بحاشيته، وذويه سنة أربع وسبعين وستمائة كما ذكرناه. واختطّوا بها الدور والمنازل، وأجرى فيها المياه إلى قصوره، وكانت من أعظم آثار هذه الدولة وأبقاها على الأيام. ثم أوعز بعد ذلك ببناء قصبة مدينة مكناسة، فشرع في بنائها من سنته، وكان لحين إجازته البحر قافلا من غزاته لحق طلحة بن محلى بجبل أزرو [١] نازعا إلى قبائل زناتة من صنهاجة، فاغذ إليه السلطان بعساكره وأناخ عليه. واستنزله لشهر على ما سأل من الأمان والرتبة. وحسم الداء من خروجه. واستوزر صنيعته فتح الله السدراتي، وأجرى له رزق الوزارة على عوائدهم. ثم بعث إلى يغمراسن كفاء هديته التي أتحفه بها بين يدي غزاته. وكان شغله عنها أمر الجهاد، فبعث له فسطاطا رائقا كان صنع له بمراكش، وحكمات مموهة بالذهب والفضة، وثلاثين من البغال الفارهة ذكورا وإناثا بمراكبها الفارسية من السروج، والنسوانية من الولايا، وأحمالا من الأديم المعروف دباغة بالشركسي، إلى غير ذلك مما يباهي به ملوك المغرب وينافسون فيه.