منازلها جميعا سياج الأسوار وأن يكون وضع ذلك في متمنّع من الأمكنة إمّا على هضبة متوعّرة من الجبل وإمّا باستدارة بحر أو نهر بها حتّى لا يوصل إليها إلّا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدوّ ويتضاعف امتناعها وحصنها. وممّا يراعى في ذلك للحماية من الآفات السّماويّة طيب الهواء للسّلامة من الأمراض. فإنّ الهواء إذا كان راكدا خبيثا أو مجاورا للمياه الفاسدة أو منافع [١] متعفّنة أو مروج خبيثة أسرع إليها العفن من مجاورتها فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محالة وهذا مشاهد. والمدن الّتي لم يراع فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب. وقد اشتهر بذلك في قطر المغرب بلد قابس من بلاد الجريد بإفريقيّة فلا يكاد ساكنها أو طارقها يخلص من حمّى العفن بوجه. ولقد يقال إنّ ذلك حادث فيها ولم تكن كذلك من قبل ونقل البكريّ في سبب حدوثه أنّه وقع فيها حفر ظهر فيه إناء من نحاس مختوم بالرّصاص. فلمّا فضّ ختامه صعد منه دخان إلى الجوّ وانقطع. وكان ذلك مبدأ أمراض الحميّات فيه وأراد بذلك أنّ الإناء كان مشتملا على بعض أعمال الطّلسمات لوبائه وأنّه ذهب سرّه بذهابه فرجع إليها العفن والوباء. وهذه الحكاية من مذاهب العامّة ومباحثهم الرّكيكة والبكريّ لم يكن من نباهة العلم واستنارة البصيرة بحيث يدفع مثل هذا أو يتبيّن خرفه فنقله كما سمعه. والّذي يكشف لك الحقّ في ذلك أنّ هذه الأهوية العفنة أكثر ما يهيّئها لتعفين الأجسام وأمراض الحميّات ركودها. فإذا تخلّلتها الرّيح وتفشّت وذهبت بها يمينا وشمالا خفّ شأن العفن والمرض البادي منها للحيوانات. والبلد إذا كان كثير السّاكن وكثرت حركات أهله فيتموّج الهواء ضرورة وتحدث الرّيح المتخلّلة للهواء الرّاكد ويكون ذلك معينا له على الحركة والتّموّج وإذا خفّ السّاكن لم يجد الهواء معينا على حركته وتموّجه وبقي ساكنا راكدا وعظم عفنه وكثر ضرره. وبلد قابس هذه كانت عند ما كانت إفريقية
[١] جمع منقع: موضع منخفض قليلا تتجمع فيه المياه فتتحول إلى مستنقع.